المطالِبون بالإصلاح الديني.. منير شفيق
قليلون، أو كثيرون، يعيدون ما آلت إليه أوضاع العرب والمسلمين إلى الدين الإسلامي أو المعتقدات السائدة في التعبير عن الدين الإسلامي. ومن ثم يستنتجون بأن بداية الحل، إن لم يكن الحل كله، يكون بالتخلص من سطوة الدين على حياة الناس وأفكارهم، والانتقال إلى تبني أفكار العصر الجديد. ولكن ثمة من بين هؤلاء من لا يذهبون إلى هذا المستوى من التطرف فيدعون إلى ضرورة “الإصلاح الديني”، ولعل حجتهم الأقوى تستند إلى التجربة الأوروبية التي يعيدون نهضتها إلى ما سُمّي بالإصلاح الديني. وقد تمثل هذا الإصلاح في التخلص من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وفكرها الديني، معبّراً عن ذلك بما نشأ وينشأ من تيارات بروتستانتية، ابتداء من لوثر، وكلفن، والكنيسة الأنكلكانية الإنكليزية، إلى ما راح يتولد بلا نهاية من تيارات أو كنائس بروتستانتية في الولايات المتحدة الأميركية وصل حتى الآن إلى المئات إن لم يكن أكثر .
هؤلاء القليلون أو الكثيرون لا يلحظون كثرة الذين يعتبرون بأن ما عرفه العرب والمسلمون من وحدة ومنعة وسيادة عالمية وتقدّم علمي وحضاري انطلق بعد انتصار الدين الإسلامي في الجزيرة العربية ووصل قمة ازدهاره في ظل الإسلام والدولة الإسلامية.
فبدلاً من أن تُقرَأ أسباب الانحطاط ثم الانتقال إلى التبعية والتجزئة والوصول إلى ما وصله الحال الآن انطلاقاً من الأسباب التي تؤدي إلى انتقال الدول القوية والمزدهرة إلى حالة الانحطاط والتدهور باعتبارها أسباباً ناشئة عن سُنّة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الدول كالدخول، وفق نظرية ابن خلدون، في مراحل الرفاه فالترف فالانحلال.. والشيخوخة. وهذا كله لا علاقة له بالدين أو بأيديولوجية معينة فهي سنّة جرت في كل الحالات التي عرفها التاريخ من امبراطوريات ودول قوية ومزدهرة. ثم أضف يتجاهلون ما ولّده الاستعمار من انحطاط وتدهور.
بل أن واحدة من المظاهر المُصاحِبة لمرحلة الرفاه فالترف والانحلال الأخلاقي والسياسي والفكري كما العسكري والاقتصادي تمثلت في التخلي عن القِيَم والأخلاقيات التي سادت في مرحلة النمو والنشوء والثورة والنهوض. وهو ما ترجم في التجارب العربية والإسلامية بالتخلي عن قِيَم الدين الإسلامي التي بعثت النمو والنشوء والنهوض. وهذا يفسّر لماذا عاد الإصلاح الديني في أوروبا إلى النص الأصلي في الإنجيل وإلى تراث البناة الأوائل. وهو ما قارعت البروتستانتية الأولى به الكنيسة الكاثوليكية. وهو ما يعزز حجة الداعين إلى العودة إلى أصول الدين الإسلامي وتراث الصحابة الأوائل وليس كما يذهب الآخرون إلى التخلص من المرجعية الإسلامية من حيث أتى.
الأمر الذي يطرح من جهة أخرى أمام الذين يُطالِبون بالإصلاح الديني أسئلة كثيرة مثل هل تقصدون بالإصلاح الديني وفقاً للنموذج الغربي عَوْداً إلى النص الأصلي وذلك لتخطي ما يسود في أوساط العلماء والعامة من نصوص حول فهم الدين الإسلامي. أي كما فعلت البروتستانتية الأولى ما دامت نموذج الإصلاح الديني. وهو ما يأخذ به كثيرون من المؤرخين أو المنظرين؟
أغلب الظن أن الذين يطرحون هذا الشعار، من غير الإسلاميين المطالِبين بالعودة إلى الأصول، لا يقصدون ذلك إذ في أذهانهم شيء آخر أو أشياء أخرى. فتراهم لا يُفصحون عنها، بتحديدٍ دقيق، وإنما بعموميات ذات أوجُه.
أم يقصدون إصلاح الدين بمعنى إحداث تغيير أو تفسير لعلوم في الدين أو لنصٍ مُحْكَم في القرآن والسنة المتواترة. فلا أحد يقول بهذا بمطالبة واضحة وصريحة، والأكثر لا يفصحون عن نصٍ محدد يطالبون بالعودة إليه وعدم هجرانه. فالدعوة هنا، إذا كانت كذلك، تصبح مجرد مطالبة عامة ملتبسة، ولا معنى لها غير التمسك بالشعار العام وتردادٍ له، وغير التشكيك الخفي بأن ثمة ما يتوّجب إصلاحه، لا أكثر ولا أقل. ومن ثم نكون أمام ضربة في الظلام أو تحت الحزام تُوجَّه خبثاً وخداعاً.
باختصار من يطالِبون بالإصلاح الديني يجب أن يقولوا ماذا يريدون إصلاحه بالضبط. وذلك حتى يُصار إلى الموافقة أو عدم الموافقة أو في الأدق حتى تناقش موضوعة ملموسة لها معناها ومبناها ومغزاها ومآلها على الدين كما على الأخلاق والسياسة والمسلك العام.
أما أن يُردَّدَ الشعار بعموميته فلا معنى له ولا يجد طريقاً إلى التطبيق العملي.
ولكن إذا كان المطلوب اجتهاداً في الدين فالأمر هنا ينتقل إلى أيدي العلماء المجتهدين، وبالاعتماد إلى أصول الاجتهاد في الإسلام. أي يصبح في دائرة الدين نفسه وعلى أرضيته ومن ثم يغدو جزءاً من عالم الاجتهاد الذي يحتمل الاجتهاد المضاد أو المخالِف وهو ما يقصده المطالبون بالإصلاح الديني لأنهم يريدونه أن يتحوّل إلى مُلزِم للجميع وبإطلاق. الأمر الذي يتناقض مع الذين يطالبون بالإصلاح وأغلبهم يدعون إلى التعدّدية وحرية الرأي وعدم الحجر على العقول.
إن شعار الإصلاح الديني القديم – الجديد، والمكرّر، ولا سيما منذ أوائل القرن التاسع عشر أو قبل ذلك بقليل أخذ يتجه في هذه الأيام، على عكس اتجاهاته خلال المائتي سنة الماضية، إلى ربط المطالبة بالإصلاح الديني بمناقشة ما أخذ يطفو على السطح من تيارات إسلامية ذات طابع تكفيري ومتطرف.
فإذا كان المقصود الرد الإسلامي على تلك التيارات فهذا عليه شبه إجماع إن لم يكن إجماعاً على مستوى المؤسسات الإسلامية، وغالبية الحركات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين، وحتى الناس العاديين الذي يرون بظواهر التكفير والذبح واستباحة الدماء مخالفة للإسلام. فهل يُرادُ المزيد؟ أما التصوّر أن ثمة إصلاح يمكنه أن يُعالِج الظواهر بمعنى القضاء عليها فكرياً أو إغلاق الباب تماماً في وجه نموّها وانتشارها، فهو واهم. لأن أي إصلاح لا يستطيع أن يمنع خروج فئات قليلة ترفضه وتتحدّاه في ميدان المواجهة العسكرية. بل يمكن القول أن ما صدر عن العاملين في الحقل الإسلامي من اجتهادات ودعوات وأفكار من قبل نمو هذه الظواهر، وفي المرحلة الراهنة، انصبّ على تقديم إسلام معتدل، أو في الأقل، مخالِف مخالَفة صارخة من الناحية الدينية الصرف لتلك التيارات والظواهر.
ولهذا فإن المطلوب من التجديد في الدين، وهي العبارة الأدّق من الإصلاح الديني، ليس الرد على تلك التيارات فهذا حاصل، وقد قُتِلَ بحثاً، وإنما هنالك قضايا حياتية، واجتماعية، وسياسية، ومواجهة تحدّيات تقفز إلى الأولوية على المستوى الديني كما على مستوى ما يواجه وضع الأمة من حاجات وضرورات.
يخطئ من يظن أن ظواهر التكفير والتطرف تعود إلى الدين نفسه وإنما أسبابها ولا سيما حين يشتد عودها، وتتسّع، تعود إلى شروط تتعلق بموازين القوى ومناخات الانقسامات حين تنتقل إلى الفتنة بين المكوّنات الاجتماعية أكانت سياسية أم مذهبية أم دينية أو جهوية.
فظاهرة التطرف ليست ابنة الدين، وإن استخدمته. لأنها، وبسبب طبيعتها المُغالِية تتناقض مع الإسلام. فكل غلوٍ يبتعد عن الإسلام بقدر ما يذهب إليه.
وبكلمات أخرى، لو جاء الإصلاح بالكامل مطابقاً لما يريده المطالِبون به، لما حال دون الاختلاف، أو دون الشذوذ والتطرف. بل قد يكون إذا جاء بتعارضٍ مع النص مدعاة لاستثارة التطرف والعنف.