الغائب الحاضر أ.د. بثينة شعبان
لقد أعدّت الولايات المتحدة لقمّة بوتين _ بايدن التي انعقدت في جنيف في 16 حزيران 2021 إعداداً يعتبر مزيجاً من الثقافة الهوليودية الأمريكية والضرورات السياسية والنتائج المرجوة منها؛ إذ يمكن اعتبار انعقاد قمة مجموعة السبع في بريطانيا في 13 حزيران رسالة موجهة إلى روسيا، وطبعاً إلى الصين، للتعبير من خلال الصورة والحدث الحي عن قوة التحالف عبر الأطلسي والذي حاروا بتسميته: أهو “الدول الصناعية السبع” أم “الديمقراطيات السبع الكبرى” أم “أقوى دول سبع”. وكل هذا التعدد في التسميات هدفه واحد هو إشعار الآخرين بقوة لا مجال لديهم لمنافستها.
وكانت لغة البيان الختامي للدول السبع والتي دعت روسيا إلى وقف أنشطتها المزعزعة للاستقرار ودعتها إلى احترام حقوق الإنسان متوعدة بالمحاسبة جزءاً أساسياً من التحضير لقمة بايدن بوتين.
كما كانت الاتهامات الموجهة للصين بشأن حقوق الإنسان والأقليات جزءاً أيضاً من تحضير صورة القمّة والإيحاء حتى قبل انعقادها بأن الرئيس الأميركي يحمل في جعبته إرثاً متفوقاً في السياسة وحقوق الإنسان وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأمر الذي يثير ابتسامة متهكمة حتى من قبل المبتدئين في السياسة شأناً.
ولكن علينا أن نتذكر أننا نتعامل مع رئيس أمريكي يهتم بالسرد (باللغة والصورة) أكثر من اهتمامه بالحقائق، وهذه اليوم ثقافة أمريكية متجذرة؛ فحين سأل الرئيس بايدن ماذا سيحدث لو أن الولايات المتحدة تدخلت بالشؤون الداخلية للدول وانخرطت بالأعمال التي انخرط بها هو (الرئيس بوتين؟) ليضيف الرئيس بايدن: “المسألة ليست ما إذا كانت الولايات المتحدة تقوم بهذه الأعمال أم لا ولكن ما إذا كانت تتم رؤيتها حول العالم أنها تقوم بهذه الأعمال أم لا”؛ أي بكلمات أخرى: السرد قبل الحقيقة.
وهذا يعتبر مدخلاً ممتازاً لما نريد أن نناقشه هنا بصدد قمة بوتين _ بايدن؛ حيث حاول بايدن أن يقول إن دافع الرئيس بوتين هو أن ينال الموافقة في نظر العالم ويقصد طبعاً السبعة الكبار الذين اجتمع معهم بايدن قبل القمة متوهماً أن هؤلاء السبعة هم الذين يشكلون الرأي العام العالمي. ورغم أن بوتين قد قارع الرئيس الأميركي في مؤتمره الصحفي المنفرد حول ما تقوم به الولايات المتحدة من انتهاكات لحقوق سكانها وتدخلات بشؤون الدول الداخلية فإن بعض المحللين الغربيين أبدو دهشتهم لماذا لم يكن بايدن حازماً مع بوتين، ولماذا لم يعلن عن عقوبات ضده، ولماذا سمح له أن يخرج منتصراً أو على الأقل أن يكون منتصراً كما كان بايدن في نهاية القمة. وطبعاً تمّ كيل الاتهامات للرئيس بوتين بأنه يحاول أن يتوجه إلى الداخل الروسي وأن يحرز نقاطاً في القمّة تساعده مع الداخل الروسي. ولكن ما لم يأت المحللون على ذكره هو أن بوتين قادم إلى القمة وفي جعبته شراكة هامة مع العملاق الصيني واتفاقات طموحة تريد أن تغير من قواعد اللعبة التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية والتي تتفرّد الولايات المتحدة بخرقها وتجاهلها حين تشاء، وتلتزم بها حين يحلو لها ذلك أو يناسب مصلحتها.
لقد كانت لغة بوتين لغة الواثق بوضعه الداخلي وبخياراته على المستوى الدولي؛ إذ قال مازحاً: “ليس المطلوب أن ننظر في أعين بعض ونعبّر عن الحب والالتزام للأبد”؛ أي أنه يسعى لتحقيق مصالح بلده ورؤيته آخذاً بالاعتبار طبعاً انحدار الغرب القيمي في أنظار البشر، والبديل الذي تقدمه الصين وروسيا وعدد من الدول المتحالفة معها في بناء عالم جديد يحترم سيادة الدول وحقوق الشعوب ويعتبر من الجوهري جداً “أن يتطابق السرد مع الحقائق”.
كيف يمكن لأي قوة في العالم أن تقود وهي تكرر في كلّ مفصل أنه ليس المهم ماذا يحدث ولكن المهم ماهي الصورة التي يشكلها الآخرون عمّا يحدث؛ أي ليس مهماً أن الإرهاب الذي موّله وسلحه الغرب وتركيا قد قتل مئات الآلاف من الشعب السوري ودمّر المؤسسات والأماكن الحضارية، وليس مهماً أن شاحنات الولايات المتحدة تسرق النفط والقمح السوري من أصحابه وأهله في وضح النهار، ولكن المهم ماهي الصورة التي تصنعها الولايات المتحدة عن نفسها في أذهان الآخرين حتى وإن افتقرت هذه الصورة إلى أي علاقة بالواقع وتم بناؤها على أسس زائفة وخادعة وكاذبة. كم هو خطير هذا الكلام وكم هي خطيرة هذه الثقافة.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة والغرب عموماً يدعمون الكيان الصهيوني الغاصب الذي يقتل الشباب الفلسطيني بالرصاص الحيّ في وضح النهار وفي أكثر الجرائم العنصرية قباحة في التاريخ، ولكن طالما أن الصورة التي يروّجونها عن الكيان الغاصب هي صورة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط فليس مهماً كم يقتل من البشر في جرائم يمنعون إعلامهم من التعامل معها.
الجميل في الأمر أن الرئيس بوتين تحدث باسم دول وشعوب كانت غائبة حاضرة في مؤتمره الصحفي آخذاً بالاعتبار، وبلغة الجسد الواثقة والكلام الواثق، أن الغرب في مرحلة أفول وأن العالم يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب على أرض الواقع ولن تتمكن أي صورة يصنّعونها من إلغاء هذه الحقيقة، وأن كلّ التحليلات الساذجة التي ألقت اللوم على بايدن لأنه لم يكن أكثر حزماً مع بوتين لم تأخذ بعين الاعتبار أن العالم قد تغيّر وأن الصورة الكاذبة التي سوّقوها عن فلسطين وسورية وليبيا واليمن والعراق وأفغانستان وروسيا والصين ماثلة اليوم في أذهان ملايين البشر لتفقدهم المصداقية فيما يقولون وفيما يفعلون، ولتؤكد أن الزمن الذي تستطيع به الصورة أو السرد أن يكون بديلاً عن الواقع قد انتهى وأن احتكارهم للإعلام قد تحطّم على أيدي الشباب الفلسطيني والعربي وأحرار العالم الذين تمكنوا في الهبّة الفلسطينية الأخيرة من إيصال الصوت والصورة من أرض الواقع إلى أرجاء المعمورة.
هذا إيذان بمستقبل لن تتمكن مسرحية انعقاد قمة الدول السبع ولا مسرحيات أخرى اعتادوا على تسويقها أن تعترضه، أو أن تحدّ من لغة بوتين الواثقة بالنفس والحلفاء والتوجّه والمستقبل ومنطق التاريخ الذي لا يخطئ أبداً. ولكن التحليلات والمقالات الغربية التي نُشرت بعد قمة بوتين وبايدن تظهر وكأن الغرب يرفض أن يرى واقع العالم الجديد ويصرّ على العيش في العصر الاستعماري القديم متوهماً أن الصورة التي يخلقها لنفسه وللآخرين ستتمكن من ليّ ذراع الواقع وتغيير وجهته.
لقد أثبت التاريخ والأديان السماوية المنزلة أن “الزبد يذهب جُفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” وهذا هو القول الفصل، اليوم وغداً وبعد غدٍ.
الغائب الحاضر في قمة بوتين _ بايدن سيكون حاضراً بقوة في المستقبل القريب وسيحتلّ المشهد واللغة والصورة دون منافس.