المفارقة المرّة بين عيد الانتصار ويوميات الانهيار
غالب قنديل
يبدو المشهد اللبناني سورياليا تحت وطأة مفارقة خطيرة، تكشفها هوّة سحيقة بين صورة ما أنجزته المقاومة في تحرير الأرض وحماية البلد، وما أنتجه الواقع السياسي للسلطة وللنظام القائم من يوميات الانهيار والإفقار،
التي تطبق على اللبنانيين وتخطف أنفاسهم، وتصادر فرص النمو والازدهار المتاحة في دوامة من الخراب، الذي صنعته، وأسست له المناهج الاقتصادية والمالية السائدة، منذ العهد الإعماري حتى الغرق في لجّة الدين الربوي، وما أورثه ماليا ونقديا، يدفع البلد كلفته اليوم. بينما تتخبّط السلطة السياسية في مفردات إدارة الأزمة والترقيع الصعب، عبر تجريب المجرّب وإدارة الظهر للفرص المتاحة واقعيا، والتي يتطلّب التقاطها كثيرا من الشجاعة والإقدام والخروج عن المألوف في مناهج التفكير والعمل السياسي وإدارة الشأن العام. وهذا الواقع يزداد وطأة وبؤسا إذا ما وضعنا في الاعتبار يوميات الأداء السياسي الغارق في متاهة “علك المعلوك” واجترار قديم المستهلك وكأن شيئا لم يحدث في البلد، وبصورة أقل ما يمكن وصفها بـ”البلادة” و “التمسحة” والانفصال عن الواقع.
أولا: إن المأزق اللبناني الناتج عن أزمة انهيار شاملة اقتصادية ومالية، يعبّر عنها الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، ليست أمرا مفتعلا، بل هي التعبير الاقتصادي والمالي عن الكارثة الحاصلة، في ظل ما تحمّله البلد من نتائج وتبعات النهج الإعماري الريعي، وما ولّدته سياسات الحقبة السابقة من نتائج ومسارات، أفضت الى الكارثة، لأنها قامت بعيدا عن تنمية الثروة الحقيقية، والتقاط فرص تطوير الإنتاج، وتوسيع الشراكات وتنويعها على قاعدة التكافؤ، وخارج العبودية والإذعان لمراكز الهيمنة الغربية واستلاب الرضوخ لمسلّمات بالية، تتمرّد على قيودها جميع الدول النامية في العالم، والشعوب الطامحة الى أخذ مستقبلها بأيديها. والحقيقة، إن ما نشهده في لبنان من إصرار على تجريب المجرّب ولا مبالاة واستلاب وتبعية مرتَهنة للخارج، ينمّ عن عقم فكري وسياسي، هو ليس إلا التعبير الحي عن إفلاس وعجز الواقع السياسي القائم بمعظم تشكيلاته، وتخلّفه عن مواجهة التحدّيات. ولعل الانفصام الأخطر في هذا الواقع، يتبدّى لنا في معادلة أن بلد المقاومة، الذي حطّم خرافة العدو الذي لا يُقهر، وتحوّل الى مركز إشعاع في الإقليم، وحقّق مناعة في وجه أعتى الجيوش بمعادلات الردع، التي أنشأها المقاومون الأبطال، هو نفسه يشبك قدراته مع جميع أخوة الشرق، من سورية وإيران وفلسطين والعراق، ويهب لهم بعضا من قوته وخبرته وقدراته الهائلة. وفي حين، يتحسّس هؤلاء الشركاء حاجة لبنان، الذي يحرصون عليه وعلى قوته، الى المؤازرة في وجه الكارثة الاقتصادية والمالية، يبدو الواقع السياسي للسلطة اللبنانية قاصرا وعقيما وقاعدا عن أيّ مبادرة.
ثانيا: من حقّنا أن نسأل: كيف لم يبادر أيّ مسؤول كبير في البلد، ممن يتلهفون لاستقبال أيّ موفد فرنسي أو أميركي، الى الاتصال بالأشقاء في سورية والعراق وإيران وبالأصدقاء في روسيا والصين لبحث ما تستطيعه هذه الدول الشقيقة والصديقة في المساعدة على دعم لبنان، والمساهمة في توفير الإمكانات والفرص اللازمة لمجابهة الكارثة، وبناء واقع جديد، ليس فحسب، يوفّر إمكانية النهوض من الكارثة، بل إن ما في حوزة هذه الدول الشقيقة والصديقة ما يسمح للبنان دون كلفة تُذكر، أن يتعافى وينهض، فيؤسس لوثبة ضخمة في مسار تطوّره الاقتصادي والإنتاجي والمالي ورخاء شعبه، بما يتخطّى حدود احتواء النتائج الاجتماعية الخطيرة للانهيار المالي والتراجع الاقتصادي الخطير.
إن لبنان في هذه الظروف، هو أحوج ما يكون الى تفكير جديد، وقيادات سياسية مبدعة، مفتوحة العقل، قادرة على الاستشراف، جديرة بالمبادرة لاتخاذ الخطوات المناسبة، والتقاط الفرص الذهبية، التي يمكن تحقيقها واستثمارها في الشرق الكبير بالشجاعة والجرأة، التي يستدعيها تحدّي الكارثة، ومعانقة الظرف التاريخي الجديد والمتغيّر في العالم والمنطقة. وهذا هو المعنى الفلسفي والتاريخي لفكرة التقاط اللحظة ومعانقة الصدفة، بدلا من السلبية القاتلة، والتفرّج الأبله على ما يدور حولنا في عالم يغلي بتغييرات عملاقة، تطرق أبواب القارات الخمس، ولا مجال معها للعمى السياسي والفكري، وللجهل الرهيب، الذي يُطبق على نخبنا المتفاخرة بعنجهية فارغة.
ثالثا: إن ما يحتاجه لبنان في هذا الظرف الخطير ليس معجزة، والإنقاذ على طريق النمو والتعافي وامتلاك اقتصاد جديد صاعد ومتطوّر، هو هدف واقعي وغير مستحيل، لكنه يستدعي إرادة واضحة واستثنائية، تملكها حكومة مبادِرة، تحاكي حزم المقاومة في تحدّي المستحيل الصهيوني، الذي مزّقه المحاربون الشجعان بقيادة الشهيد القائد عماد مغنية، عندما أطلقوا نيرانهم على الخرافة، التي احتلّت الوعي العربي، منذ عام النكبة، وأنشأوا توازنات، شكّلت، مع التحرير العظيم عام الفين، بشارة فلسطين، التي أنهضت فتيانها وأجيالها الشابة مؤخرا الى انتفاضة ومقاومة تزلزلان الكيان المغتصب، وتضربان موعدا جديدا لتحرّر الشرق، ولنهضة الوطن العربي.
إن التاريخ لا ينتظر أحدا، وهو لا يقيم وزنا لغير المبادرين الشجعان، وبهجومية المقاومة، وبروح المبادرة، يمكن تحدّي المستحيل، سواء أكان اقتصاديا ماليا أم عسكريا. ولذلك، فإننا نتوجه هذه الأيام بوجداننا الى سيد المقاومة وبطل التحرير سماحة القائد السيد حسن نصر الله لترقّب مبادرة في مستوى التحدّي والحدث، تتصل بالإنقاذ، نحن على يقين أنها لن تكون على يد غيره، ونأسف لمساهمتنا في إثقال كاهله بهذا الهمّ الكبير، لكن الحقيقة أن الواقع السياسي المحلي ميؤوسٌ منه، بائسٌ تافه، دون مستوى أو جدارة الإنقاذ. ولذا يغلبنا الاشتياق الى مبادر سياسية من قائد المقاومة، تضع البلد على سكّة الخلاص، وتوحّد صفوف المخلصين في مسار هجومي، يضع حدا للنزيف.