وجهاً لوجه أمام المحكمة الدولية بقلم: ابراهيم عوض
بداية وقبل أي كلام آخر، لا بد من القول والتأكيد على أنه ما من أحد في لبنان وحتى خارجه إلا ويتوق لمعرفة من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وسوق من تثبت عليه الإدانة، أكانوا أفراداً أم مجموعة، خلف القضبان بعد إنزال أشد العقوبات بحقهم، علماً بأننا كلنا على يقين بأن القاتل، وإن أفلت من يد العدالة اليوم، فلن يكون باستطاعته الإفلات من عدالة الله عز وجل وحكمه .
جئتُ بهذه المقدمة كي ألج الى حديث الأربعاء لهذا الأسبوع، والذي سأخصصه لأروي فيه انطباعاتي التي خرجتُ بها بعد الزيارة التي قمت بها الى المحكمة الدولية الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري التي اتخذت من مدينة لاهاي الهولندية مقراً لها، وهو يبعد حوالي الثلاثين كيلومتراً عن العاصمة أمستردام.
سبب الزيارة أولاً دعوة تلقيتُها ومجموعة من الزملاء والمحامين والناشطين في المجتمع المدني من تلفزيون “الجديد”، وبطلب من المحكمة لحضور جلسات استحواب نائبة مديرة الأخبار في التلفزيون المذكور الآنسة كرمى خياط كريمة رئيس مجلس إدارة “الجديد” ومالكها الرئيس السيد تحسين خياط. أما التهمة التي سيقت ضدها واستُجوبت بسببها قبل أشهر قليلة فهي “تحقير المحكمة”.. كما جاء في نص الدعوى، وكذلك إعاقة سير عملها وتعريض حياة شهود في هذه القضية للخطر، بعد إجراء مقابلات تلفزيونية معهم، وهو الأمر الذي حظّرت المحكمة تناوله أو التطرق إليه عبر وسائل الإعلام، فيما هناك مراسلات تفيد ان تعميم المحكمة هذا إنما صدر بعد بدء “الجديد” بعرض حلقاتها عن الشهود وليس قبله.
قلت إنني حضرت الى المحكمة الدولية مع وفد بصفتي نائباً لرئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، وبرفقة رئيسه الزميل عبد الهادي محفوظ ومشاركة كل من الإعلامي جورج قرداحي والكاتب الساخر صاحب برنامج “دمى قراطية” شربل خليل، وأستاذ الحقوق في الجامعة الأميركية المحامي بول مرقص، والدكتور في الجامعة اللبنانية عادل خليفة، والصحافية الكاتبة الزميلة سكارليت حداد عضو مجلس نقابة محرري الصحافة، والإعلامية نجاة شرف الدين.
أمام مبنى المحكمة المؤلف من سبعة طوابق وقفنا في الصباح الباكر والمصقع، وقبل ساعة من بدء الجلسة الأولى، حيث استُهلت إجراءات الدخول القاضية بالتأكد من وجود أسمائنا على لائحة الزوار، ومن ثم إخضاع كل فرد منا لتفتيش إلكتروني دقيق بعد ان انتُزع كل ما هو معدن من ثيابنا وأيدينا كالهواتف والساعات والأقلام والنقود، وحتى “حبة الدوا” إن وُجدت، واحتجاز جوازات السفر العائدة لنا. ولم يتوقف التدقيق والتفتيش عند نقطة الدخول فحسب بل تكرر قبل ولوجنا القاعة المخصصة للزوار، والتي تعلو قاعة المحكمة بقليل.
وهناك أنزلت ستارة فخمة على الواجهة الزجاجية العملاقة يجري رفعها فور بدء الجلسة، كما يحصل في المسرح تماماً، مع الفارق أن الأخير للتمثيل والترفيه، أما هنا فالأمر مختلف تماماً لا مكان فيه سوى للوقائع والحقائق، وكذلك الألم الذي يعتصر قلب من يشاهد ما يجري داخل القاعة، سواء بالعين المجرّدة كما فعلنا أم عبر شاشات التلفزة، كيف لا ونحن أمام محكمة دولية تحقق في جريمة- زلزال انتزعت منّا رئيس حكومة قلّ نظيره لم يملأ بلده فحسب بل شغل العالم أيضاً.
لن أدخل في تفاصيل ما حدث في تلك الجلسات، وأظن أن الكثيرين علموا بها أو تابعوا مجرياتها، خصوصاً الكلمة الجريئة الصريحة التي ألقتها الزميلة كرمى خياط مدافعةً عن نفسها وعن “الجديد”، مطالبةً بتصحيح عمل المحكمة والتركيز على جريمة اغتيال الحريري، لا الدخول في متاهات واستهداف الإعلام اللبناني، مع الإشارة الى ان وجود المدعى عليها في لاهاي خير دليل على عدم رفضها المحكمة، وإبداء الاستعداد للتعاون معها شرط إزالة البقع السوداء العالقة على صفحتها، والمتمثلة بقضايا مختلفة منها توقيف الضباط الأربعة، وشهود الزور، والكشف عن تلقي مسؤولين فيها لرشاوى. ناهيك عن تسريب وثائق ومعلومات من داخلها، وهذا ما أقرّ به صديق المحكمة محامي الادعاء في الجلسة الأولى التي مثلت فيها كرمى خياط أمام المحكمة الأسبوع الماضي، إذ قال بالحرف (ربما حصل تنصّت على الهواتف، وربما وقعت سرقة من مكاتبها، وربما تم اختراق ما من جهات وأطراف…) وقد جاءت كلمات صديق المحكمة هذه لتثير محامي الدفاع عن كرمى الذي كرر ما ذكره المدعي العام، بعد ان دوّنه على ورقة صفراء ما لبث أن رمى بها أمام الحضور وداخل القاعة، مخاطباً إياه بالقول: “إن كلمة ربما لا محلّ لها في القانون وأمام المحاكم“..
من مثول كرمى أمام المحكمة انطلقنا في الحديث مع رئيس قلم المحكمة، الذي استقبلنا نيابة عن رئيسة المحكمة التي كانت موجودة في لبنان، علماً أنها من المرات النادرة التي يلتقي فيها مسؤول رفيع في المحكمة بإعلاميين.
في ذلك اللقاء الذي امتد لساعة خلافاً لما كان مقرراً أو محدّداً بنص ساعة لا غير، أكدنا التمسك بالمحكمة الدولية والحرص على إنجاز مهمتها على أكمل وجه. لكننا طالبنا في الوقت نفسه إزالة الهواجس الراسخة في أذهان فريق من اللبنانيين، الذي يعتبر المحكمة مسيّسة مستنداً الى أخطاء فادحة ارتكبتها تصب في هذا الإتجاه من وجهة نظره.
ما سعينا إليه في هذا اللقاء كان التركيز على الجانب المتعلق بتعاطي المحكمة مع الإعلام، وهذه هي غايتنا من المجيء الى لاهاي، وإسماع صوتنا للقيّمين عليها، لافتين أنظارهم الى ان حرية الصحافة والإعلام مقدسة لدينا، كما في كل البلدان المتحضرة، وتحت سقف القانون بالتأكيد. وإذا كان لسان حال أعضاء الوفد بدا واحداً أمام مضيفهم، وما سمعه من كل عضو فيه لا يختلف عن الثاني، لجهة مطالبة المحكمة الدولية التعامل برفق وتجرد مع الإعلام اللبناني، فإن الإنطباع الذي خرجنا به بعد اللقاء يشير الى تفهم المحكمة الخصوصية الممنوحة لإعلامنا وربما السعي لإنهاء قضية كرمى خياط و”الجديد” بأقل ضرر ممكن للطرفين.
وإذا كنتُ أتحفظ عن إيراد ما قاله كل من الزملاء أعضاء الوفد لرئيس القلم باعتبار أنه ملكهم وحدهم، إلا أنني أروي ما أدليتُ به داخل الإجتماع، حيث توجهتُ الى المصغي إلينا بالقول إنني شاهدت عند مدخل المحكمة “ستاند” وضعت على رفوفه صور ممن تتهمهم المحكمة باغتيال الحريري مع نبذات عنهم تفيد بالتهمة الموجهة لكل فرد فيهم، وقد سُميوا جيمعاً بـ”مجموعة عياش” ومن هنا سألت محدثي قائلاً: طالما الأمر كذلك وفقاً للمعطيات المتوفرة لديكم لماذا لم تبدأ محاكمتهم حتى الآن وأراكم تحاكمون الإعلام اللبناني بدلاً منهم؟! فكان الجواب برفع الملاحظة وغيرها مما أبلغه إياه الوفد الى رئيسة المحكمة.
كلمة أخيرة وعود على بدء، نحن جميعاً ننتظر اليوم والساعة والدقيقة التي نعرف فيها الحقيقة، حقيقة من قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعد الزيارة الى لاهاي والتعرف الى المحكمة عن كثب، فإننا نأمل منها أن لا ان تخيب الظن فيها، وتفسح المجال أمام “الغمز واللمز” وتلطيشات من نوع أن هناك أكثر من 500 موظف داخلها تدفع رواتبهم من جيوبنا، وكذلك النفقات العائدة لها التي بلغت حتى الساعة 500 مليون دولار.
http://alintichar.com/wp-content/uploads/2013/03/intichar-new9.jpg