الانتفاضة والتحولات الكبرى
غالب قنديل
يقدّم الشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة مساهمة تاريخية جليلة، تحصد ثمارها جماهير الإقليم والمنطقة برمتها من خلال مفاعيل الانتفاضة الشعبية، التي تقترن بمقاومة متجدّدة في الميدان، لتلجم العدوانية الصهيونية، وتتوّج معادلات الردع القاهرة، التي فرضها محور المقاومة في المنطقة، وراكم بها عناصر القوة لخنق العربدة الصهيونية، منذ انتصار الثورة الإيرانية وقيام المحور الإقليمي حول التحالف الإيراني السوري وحزب الله والفصائل الفلسطينية المقاتلة.
أولا: إن الترابط العضوي بين ما يجري داخل الأرض المحتلة والبيئة الإقليمية الجديدة ليس فقط استنتاجا نقيمه على التزامن الظرفي وتوازي التوقيت بين ما يجري داخل فلسطين المحتلة ومحيطها العربي والشرقي، بل لأنه يتوّج مسارا تاريخيا تراكم خلال العقود الماضية، وشهد انعطافات متعدّدة تبلورت في سياقها التوازنات والتحولات، التي هُزم فيها الكيان المعادي أمام إرادة المقاومة، ولا سيما مع تنامي القدرة الإيرانية رغم الحصار، ونهوض القوة السورية بعد دوامة الدم والنار، وثبات قدرات حزب الله المتعاظمة، ورسوخ معادلات القوة في لبنان، مما يخنق الغطرسة الصهيونية، ويمنع المغامرات العدوانية في الإقليم، ويؤسس بالتالي لمناخ جديد، يتوّجه النهوض الشعبي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وقيام أجيال فتية من الشباب المنتفض، التي تخوض تجربتها في التصدي للغزاة الغاصبين، وملاقاة جميع إخوة التراب على عهد التحرير.
ثانيا: إن أصالة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية تجعل من هذا التحوّل بداية اتجاه جديد في حركة الصراع، وما بعدها غير ما قبلها دون شك، خصوصا وأن مناخ النهوض الشعبي يوفّر بيئة حاضنة متينة لأجيال جديدة من أبناء الأرض وفدائييها، يرفعون القبضات، ويحملون ما توفّر من السلاح لمجابهة الغزاة، ويستكملون تجارب من سبقوهم من فتيان فلسطين الذين عُرفوا بـ “الذئاب المنفردة”، فكانوا طليعة أفواج متجددة من الفدائيين والمبادرين للقتال من أجل التحرير بالسلاح وزلزلة الكيان الغاصب المدجّج بأحدث ترسانات الغرب الاستعماري، والأميركي خصوصا.
ولأن هذا التحول العظيم في مسار الصراع هو راسخ وأصيل، يعبّر عن تغييرات عميقة في مسار الصراع، فإننا لا نبالغ بالاستنتاج أن فلسطين تدشّن مرحلة الغروب الصهيوني بانتفاضتها، وهي تستنزف الكيان المعادي، الذي تردعه المعادلات المتحوّلة في المنطقة، وبذلك فإن أبناء الارض يقدمون قسطهم في معركة تحرير الشرق، ومن قلب الأمة ومركز الجغرافيا والتاريخ في منطقتنا.
ثالثا: كما جرى في مراحل تاريخية سابقة منذ عام النكبة 1948 لا يمكن الفكّ أو الفصل بين الحدث الفلسطيني وتداعياته الإقليمية والدولية. وكما كان انبثاق العمل الفدائي إيذانا بمراحل جديدة في المنطقة، ما لبثت أن ظهرت نتائجها وتداعياتها في سائر بلداننا، كذلك كما أسفرت المقاومة منذ نهوضها في تكتيف الكيان من الداخل، وتعزيز الردع، الذي يحيط بفلسطين مع تعاظم محور المقاومة إقليميا وتصاعد الدعم الإيراني، فإننا مقبلون على مرحلة جديدة يترسّخ فيها كبح جماح العدوانية الصهيونية، وتفاعل المزيد من عناصر القوة المتنامية لدى جميع أطراف محور المقاومة الإقليمي، وهذا بالذات ما يعنيه التعافي السوري، والصعود الإيراني الاقتصادي والتقني والعسكري.
إن مرحلة تاريخية جديدة تتشكّل في الشرق والعالم، وهي تنبثق من أرض فلسطين، وتستمر وتتقدم بجميع عناصرها بسواعد وحناجر وبنادق أبناء الأرض وبصواريخ الردع، التي تعطيهم قدرة هائلة ونوعية على فرض التغيير في التوازن مع تكامل الهبّات الشعبية والعمل الفدائي المسلّح داخل الأراضي المحتلة عام 48 وفي قطاع غزة المحاصر.