تجاذبات إقليميّة عشيّة التقدّم الأميركيّ نحو إيران؟: ناصر قنديل
– يرفض البعض التصديق أن هناك تناقضاً سيظهر وربما سيكبر بين واشنطن وحلفائها الإقليميّين، لأن الصورة التي عرفناها لعقود طويلة تشير الى العكس، لكن الحقيقة التي كشفها الباحث الأميركي ريتشارد هاس عام 2006 في مقالة شهيرة نشرها بصفته رئيساً لتحرير مجلة فورين أفيرز الشهيرة، تقول إن التحوّلات الجارية في العالم ستنتهي إلى تراجع ظاهرة الدول العظمى عالمياً، لصالح ظاهرة دول عظمى إقليمياً، متوقعاً أن يستعيد العالم مشهد القرن التاسع عشر، عندما كانت الدول الإقليمية الكبرى هي صانعة السياسة الأولى، وكانت الدول العالمية الكبرى تسعى للتنافس عليها وعلى محالفتها، وتحتفظ هذه الدول الكبرى عالمياً بنفوذها وحضورها في مداها الحيوي كدول إقليمية عظمى، فتسقط نظرية الدولة الحاكمة في العالم، لأن كلفة الحفاظ على هذا الدور تتحوّل تدريجياً لتصير أعلى من عائداته، وتصبح كلفة تعطيل هذا الدور على المتضررين أقل بكثير من العائدات، ومن كلفة الحفاظ على الدور حكماً.
– وفقاً لمنطق هاس ومعادلته، يصبح تنامي دور الصين وروسيا، ليس تعبيراً عن تقدّمها على حساب مكانة أميركا كدولة عظمى، بل نتيجة سقوط نظرية الدولة العظمى المسيطرة عالمياً، ونتيجة انتماء روسيا والصين في آسيا، ما يجعلهما قوتين إقليميتين عظميين فيها، مثلهما مثل إيران، ويصير الاستقرار العالمي مشروطاً بتقبل واشنطن لهذه التحولات، وتموضعها عند حدود دورها الإقليمي، وتشاركها مع الدول الصاعدة كل في إقليمه، لتشكيل نظام عالمي جديد، ووفقاً لهذا المنطق فإن الدول والكيانات التي بنت مكانتها في إقليمها على تصرف أميركا كقوة عالمية عظمى، ستقاوم أي مسعى للتأقلم الأميركي مع المعادلة الجديدة إذا بدأت واشنطن تتصرّف على أساسها، أما الدول التي تملك مقومات الدولة الإقليمية العظمى، وكانت تحت المظلة الأميركيّة فستبدأ بالبحث عن دور مستقل. ووفقاً لمنطق هاس تفسر هذه المعادلات ما جرى في واشنطن بين ولايتي باراك اوباما ودونالد ترامب، حيث الصراع بين خياري التأقلم مع هذه المعادلة والتمرّد عليها، ومثله الصراع بين ولايتي ترامب وجو بايدن، كما تفسر مواقف السعودية وكيان الاحتلال الاعتراضية على التأقلم الأميركي في عهدي أوباما وبايدن، والمنسجمة مع التمرد الأميركي في عهد ترامب، وتفسر بالمقابل موقف تركيا منذ ظهور نتائج التراجع الأميركي والتقدم الروسي الإيراني في غرب آسيا من البوابة السوريّة.
– خلال الأيام الماضية بدا بوضوح أن اتجاه التأقلم الأميركي يتقدم من بوابة الاتفاق النووي مع إيران والتسليم برفع العقوبات، والكلام الأخير للناطق بلسان وزير الخارجية الأميركية واضح الاتجاه للتراجع عن العقوبات، وفي الساعات الماضية ظهر حراك عربيّ نحو لبنان يقضي على مناخات إيجابيّة كانت توحي بحلحلة الأزمة الحكوميّة، عبر إنعاش مناخ الاستقطاب على خطوط 8 و14 آذار، وبالتوازي كانت عمليات إسرائيلية تصعيدية بوجه إيران، ووفقاً للكثير من الخبراء لا يمكن قراءة هذه المتغيرات المفاجئة الا كرسائل احتجاج إقليميّة من حلفاء واشنطن على التموضع الجديد، لكن مشكلة هذا الاحتجاج أنه لا يملك بدائل يقدمها لمستقبل التوازنات الكبرى في المنطقة، التي بات واضحاً انه يشكل فيها الحلقة الأضعف، سواء مما أظهرته حرب اليمن التي كانت عام 2015 تعويضاً أميركياً للسعودية عن خسائرها من توقيع الاتفاق النووي فتحوّلت إلى عبء على أميركا وإيران وأطلقت معادلة عكسية في الإقليم، او ما يظهره الاعتراف الإسرائيليّ بتنامي قوة حزب الله ومقدراته وما يشكله من قلق وجوديّ على كيان الاحتلال بصورة يصعب وقفها.