بقلم ناصر قنديل

تحقيق المرفأ مسيَّس حتى يثبت العكس: ناصر قنديل

– يُظهر البعض الخشية من أن يبدأ المحقق العدلي الجديد القاضي طارق بيطار مهمته من الصفر، ويظهر بعض آخر الخشية من أن يتهاون مع الحصانات التي تصدّى لها سلفه القاضي فادي صوان ويتسابق بعض الحقوقيين في الحديث عن اعتبار أي إحالة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء موتاً للقضية بالاستناد الى أن هذا المجلس لم ينعقد مرة ولم يُجر أية محاكمة وأنه هيئة مسيَّسة.

 

– مشكلة التحقيق القضائي الأولى هي أن للتسييس مصدرين لا يعترف إلا بواحد منهما، مصدراً معتاداً هو تدخل السياسيين في الضغط على مسارات عمل القضاة، ومصدرا مستجدّاً وهو محاولة توظيف التحقيق القضائي في تفجير المرفأ لتحقيق مكاسب سياسية وقانونية للفريق الخارجي والداخلي الذي حاول توظيف انتفاضة 17 تشرين لإحداث تغيير يحقق أهدافه، وفي قلبه محاولات نافرة لتخديم اتهامات خارجية وداخلية بالتورط بالتفجير، ولم يكن تأخير إعلان المحقق العدلي فادي صوان عن نتائج التحقيق التقني الذي يتصل الإفراج عنه بمصالح المتضررين إلا ابتزازاً سياسياً بأوجاع الناس ومصالحها لخدمة نوع فاضح من التسييس، لإبقاء الغموض ستاراً كثيفاً لحماية هذه الاتهامات، ولم يكن لاحقاً الصدام حول الحصانات إلا محاولة تخديم لإظهار القضاء عاجزاً عن السير بالقضية فتحاً للباب أمام دعوات التدويل، التي يُراد للتحقيق أن يكون بعضاً منها.

– أول ما ينتظر القاضي بيطار هو الفصل بين التحقيق والسعي لمكاسب سياسيّة من ورائه وليس فقط وجود تدخلات سياسية لحماية بعض من تحوم حولهم شبهات. وهذا يبدأ بترتيب الأولويات وفق مصلحة الضحايا والعدالة، وأولها الإفراج عن التحقيق التقني الذي أنهته قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي، وللذين يتحدّثون عن التحقيق الدولي نعيدهم الى التقارير التي كانت تنشرها لجنة التحقيق الدولية حول المراحل التي قطعها التحقيق، خصوصاً حول الشق التقني، أي كيف حدثت العملية، خصوصاً أن نتائج تقريري الجيش وقوى الأمن متطابقة النتائج وقد تمت بمعونة أجهزة دولية متعددة ومتخصصة، والفصل بين وظيفة هذا الإعلان في تحقيق مصالح الضحايا والمتضررين من التفجير، وبين سعي بعض خارجي وداخلي للحفاظ على الغموض وتوظيفه في لعبة التحريض واختراع السيناريوات.

– الأولوية الثانية التي تنتظر القاضي بيطار هي إعادة تصويب التحقيق لجهة، أولوية تقديم جواب حول الجهة التي جلبت المواد المتفجّرة ومن سهل لها، وهل تم استثمارها وكيف ولحساب مَن، ومَن قدّم التغطية للمستفيدين، وفي قلبها توزيع المسؤوليات السياسية والإدارية والقضائية والأمنية والعسكرية. وهنا يبدو أنه سيكون عليه البدء من الصفر لأن ملف التحقيق خلال الشهور الماضية لم يقارب هذه القضية الجوهرية للتحقيق، منصرفاً لما هو سياسي، أي كيف يستعجل الخطى نحو توجيه اتهامات سياسية، أقل ما يُقال فيها إنها انتقائيّة، ولا تفسر الصدفة لونها الواحد، ولا يفسر شيء الطابع الاستفزازيّ المقصود في تناولها.

– يبقى السؤال الذي يطال الجواب حوله كثير من التضليل، وهو أيهما يشكل الأفضل والأفعل في مقاربة أي اتهام للرؤساء والوزراء، الطريقة التي اعتمدها القاضي صوان لإثارة الجلبة السياسيّة، أم إنجاز التحقيق حتى نهايته في تحديد المسؤوليات، بما يستدعيه من الاستماع إلى كل من يستوجب السماع إليه رئيساً او وزيراً او قاضياً او مسؤولاً عسكرياً أو أمنياً، وعند توجيه الاتهامات الموثقة بنتائج التحقيق الدقيق، تجاهل السياق الدستوري بالسعي لخوض نزاع حول مَن يحاكم هؤلاء، تحت شعار أن هول الجريمة يسقط كل الحصانات، أم مراسلة مجلس النواب وفق الأصول لتحميله مسؤولية محاكمة أي رئيس أو وزير يوجه اليه الاتهام، أمام المجلس الأعلى الذي يضمّ بالمناسبة أكبر قضاة الدولة وعلى رأسهم رئيس مجلس القضاء الأعلى بالإضافة لمن يختارهم مجلس النواب من أعضائه، أما وقد اختبرنا السيناريو الأول مع المحقق صوان فماذا سيحدث إذا سلك المحقق العدلي السيناريو الثاني؟

– لنفترض أن النية كانت في مجلس النواب هي التمييع وتوفير الحماية للمتهمين، فأيّهما أقوى للقضاء والقضية أن يتمّ التمييع وتتم الحماية والقضية مثارة أمام القضاء، والسياسة تضغط في السر، وتخوض نزاعاً تشكيكياً في شرعية الإجراء في العلن، أم أن يتم ذلك ومجلس النواب يتحمل المسؤولية مباشرة عن القضية ومسارها وهو تحت المجهر والأضواء؟ وأيهما يجعل السياسيين يدفعون الثمن أكثر أمام الرأي العام، أن يلبعوا لعبة التأثير والحماية من خلف القضاء وعبره أم مباشرة؟ وكيف يمكن ضمان الحماية والتأثير إذا كان القضاء رافضاً لذلك وهو في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء حاضر بخمسة قضاة كبار من أعلى مراتبه، ويكفي وجودهم لمنع التلاعب أو فضحه على الأقل.

– من الأكيد إن التحقيق القضائيّ النظيف لا يحقق تحريك الطبول ولا يستجلب التصفيق، على الأقل من الذين يملكون مفاتيح الإثارة الإعلامية والدعائية ضمن المفهوم والطريقة اللتين يتحرك عبرهما، صناع اللعبة التي ركبت على انتفاضة 17 تشرين. والطبيعي ان التحقيق لا يبحث عن التصفيق والتطبيل أصلاً، وكل تحقيق يسعى لنيلهما مسيّس حكماً، والعدالة لا تقوم الا على الفصل التام بين ما هو موجب قضائي وما هو عمل سياسي، فالذين يريدون تعويم النظام السياسي وحماية رموزه كما الذين يريدون اللعب الخارجي والداخلي في أوراق النظام وتصعيد رموز وتنزيل أخرى، يريدان التحقيق مطية، ونزاهة التحقيق تبدأ من الابتعاد عنهما بالتوازي والتساوي، فدعاة الثورة وحقوقيوها ليسوا أصدقاء التحقيق ولا أعداءه، والنظام السياسي ليس صديقاً ولا عدواً للتحقيق، فمن حيث الابتداء التحقيق هو القضية وكل محاولة تسلّق عليه يجب أن ينبذها القاضي لأن قضيته هي العدالة، ولا يعنيه من سيستفيد بعد إظهارها وإنجاز مهمته من سيستفيد منها سياسياً، لكنه يعصم تحقيقاته عن التحول الى أداة موظفة في خدمة هذه الاستفادة أو تلك، فليثبت المؤمنون ببراءتهم ذلك بمعايير العدالة، وليستفد المراهنون على إسقاط السياسيين مستفيدين من نتائج العدالة إذا ثبتت إدانتهم، لكن هذه الاستفادة أو تلك ليست من اهتمامات العدالة ولا التحقيق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى