مقالات مختارة

حكومة على أبواب صندوق النقد: سندفع الثمن مرتين: محمد وهبة

في تموز 2019 اقترح صندوق النقد الدولي سلّة إجراءات تهدف إلى تصحيح العجز الخارجي للبنان عبر التقشف العام، ورفع دعم الكهرباء، بهدف تقليص الاستهلاك وضرب القدرات الشرائية. ما حصل بعد 17 تشرين الأول من السنة نفسها، أن الانهيار ضَرَبَ القدرة الشرائية وأدّى إلى تصحيح العجز الخارجي من دون أي تدخّل من الصندوق. هذه المرحلة فرضت أيضاً البحث جدياً في الاقتراض من الصندوق كخيار أساسي، أي العودة إلى مقترحات السلّة «الإفقارية» مجدداً ودفع الثمن مرتين!

 

مضى نحو سنة ونصف على الانهيار. لم يقتنع المقيمون في لبنان بأن الطبقة الوسطى تدمّرت وبأن غالبية عائلاتها صاروا فقراء. أما خيارات النهوض فقد تقلّصت. اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لم يكن فكرة محبّذة سابقاً. رغم ذلك، إن «صانع سياسات الإفقار» قد يصبح الخيار الوحيد المتاح. فرضية أن الولوج إلى التمويل يتطلب توافقاً دولياً، لا تلغي حقيقة أن للصندوق شروطاً يصعب تلبيتها. هو كررها كثيراً في تقاريره، لكن الأساس لديه أنه لن يمنح قرضاً لأي دولة لا تضمن له استعادة الأموال. الضمانة هي تلك «الوصفة المكروهة» التي تعيد فتح نافذة لبنان أمام التمويل الخارجي مجدداً. في آخر تقرير صدر عن البعثة الرابعة في تموز 2019، جاءت صيغة وصفة الصندوق للبنان على النحو الآتي: تصحيح العجز الخارجي يتطلب برنامجاً إصلاحياً قوياً ومترابطاً، بمعنى أوضح، يقول الصندوق إنه يجب تقليص الاستهلاك عبر ضرب القدرات الشرائية. حالياً، حصل الأمر من دون «جميلة» الصندوق وبتنا فقراء، لكننا صرنا مكشوفين أكثر أمام الصندوق. الانهيار الذي تركنا نغرق فيه، ضربنا بطريقة أسوأ بكثير من تلك الإجراءات التي اقترحها ذات مرة صندوق النقد الدولي.

التصحيح يضرب المداخيل

ماذا يعني تصحيح العجز الخارجي؟ الميزان الخارجي يشمل كل العمليات التي تجرى بين لبنان والخارج. حصيلة هذه العمليات تكون فائضاً أو عجزاً يجب تمويله. وبما أن لبنان يعتمد على استهلاك السلع والخدمات المستوردة أكثر من قدراته على الإنتاج والتصدير، فإن ميزانه مع الخارج كان دائماً في حالة عجز. هذا معناه أن كل الدولارات التي تدخل إلى لبنان عبر المغتربين وعبر الصادرات لا تكفي لسداد قيمة المستوردات الخاصة بالاستهلاك، لذا نستدين من الخارج دولارات. الاستدانة كانت تتم عبر قناة أساسية هي المصارف، وبواسطة أدوات مختلفة، منها الفائدة المحلية (على «الليرة» وعلى ما يسمّى «الدولار المحلّي») الأعلى من الفائدة الخارجية.

المهم، إن تصحيح العجز الخارجي يعني التخلّي عن نمط استهلاك مبني على الاستيراد، وهذا يتطلّب منع الناس من الاستهلاك عبر ضرب قدراتهم الشرائية. تُضرب القدرة الشرائية بواسطة الضرائب، أو رفع الأسعار الداخلية، وهما الوسيلتان اللتان اقترحهما صندوق النقد الدولي في تموز 2019 عندما اقترح «زيادة ضريبة القيمة المضافة» و«زيادة الرسوم على المحروقات»، و«إلغاء دعم الكهرباء»، و«إصلاح نظام الأجور ومعاشات التقاعد في المالية العامة»… هذه هي الإصلاحات الرئيسية التي اقترحها الصندوق، والتي تؤدي إلى نتيجة أساسية: تصحيح العجز الخارجي. وبرأيه، إن هذا التصحيح كان ضرورياً من أجل «إعادة التوازن إلى الاقتصاد في الإطار الحالي لنظام سعر الصرف الثابت أمام الدولار»، لكنها أيضاً «تتطلب عملية ضبط مالية كبيرة وموثوقة يتم تنفيذها بقوّة وإصلاحات هيكلية طموحة».

ليس بالضرورة النظر إلى هذه المقترحات على أنها صائبة، لكنّ مطابقتها مع مرحلة ما بعد الانهيار باتت متاحة. فما هي مفاعيل الانهيار؟ عملياً، انهار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ودفع الأسعار المحليّة إلى التضخّم بوتيرة هائلة ومتسارعة نسبياً، ما أدّى إلى تضرّر كبير في القدرة الشرائية، وجاءت النتيجة تقلص الاستيراد بحدود النصف. ولولا وجود سلع مدعومة، لكانت قيمة التقلص في الاستيراد أكبر ونسبة الضرر في القدرة الشرائية أكبر أيضاً.

صانع الفقر VS صانع الفقراء

تبعاً لتقرير الصندوق في تموز 2019، كانت حماية ثبات سعر الصرف تتطلب استعادة السيطرة على التدهور عبر إجراءات تهدف إلى تصحيح العجز الخارجي. لكن مفاعيل انهيار سعر الصرف، بعد تشرين الأول 2019، أنتجت تلقائياً تصحيحاً في العجز الخارجي من دون أن تلغي احتمال تجدّد موجات تضخم الأسعار وانفلات متسارع لسعر الليرة ووقوع مزيد من الفقر والبطالة.

هذه المقارنة تدل على الآتي: إنه نموذج من ورق تقوده مجموعة سارقين أتحفتنا طوال عقود بأن لديه «مناعة». فهذه المجموعة التي صنعت الفقراء في لبنان منذ عقود ليس لديها فكرة واضحة عن عمل صندوق النقد الدولي، بل كانت تقف وراء ما يقترحه من إجراءات مناهضة للطبقات الفقيرة لأنها توفّر لها المزيد من السرقة. في الواقع، إن «صانع السياسات الإفقارية» حذّر من الأمر في تقريره، مشيراً إلى أن «مصرف لبنان كان ركيزة الاستقرار المالي والكيان الحارس لنظام سعر الصرف، ولكن ذلك جاء على حساب تكثيف الروابط بين البنوك والمالية العامة وإثقال كاهل ميزانيته العمومية».

وعدا عن أن مجموعة السلطة لا تملك فكرة واضحة عن عمل صندوق النقد الدولي، ولا تملك موقفاً واضحاً من أجل التفاوض معه على مستوى المرونة التي يجب، أو يمكن، أن يبديها مع لبنان، إلا أنها ليست جاهزة أيضاً لخوض أي مفاوضات ذات معنى. سلوك أفراد هذه المجموعة من مراجع ووزراء ونواب وممثلي أحزاب وسواهم، يشير إلى أنهم يراهنون على أن التمويل آت بفعل التوافق الأميركي الإيراني المقبل، وأن إدارة العلاقة مع صندوق النقد سهلة قياساً على السابق.

لا يمكن تبديد مثل هذا الوهم بسهولة. فالعلاقة التي نسجتها مجموعة السلطة مع الصندوق في السنوات الماضية، كانت مبنية على أدوار محددة؛ الصندوق يلعب دور الوكيل نيابة عن الدول المانحة، وفي بعض المرات مراقباً، لكنه لم يتعامل مع لبنان بوصفه جهة دائنة أو مقرضة. هذه الصفة تعني أن درجة المرونة أو الشدّة التي سيمارسها الصندوق ستكون مبنية على فهم أعمق للاقتصاد السياسي بعد حصول لبنان على تسهيل دولي للولوج إلى التمويل. بمعنى آخر، سيفرض الصندوق على لبنان استعادة «ليبراليته» بعد تفكيك «زبائنيته الطائفية». هنا، لا يختلط على أحد أن الصندوق بوصفه «ملاذاً أخيراً» تلجأ إليه الدول المفلسة للاقتراض بهدف التعافي والنهوض، يختلف كثيراً عن أي مصرف آخر. فالمسار الذي سيرسمه سيكون صارماً جداً، بينما قد يبدي مرونة في أساليب تحقيق الأهداف المرسومة ضمنه. لذا، يثار اليوم على عتبة تأليف حكومة لا سبيل لها سوى صندوق النقد الدولي، السؤال الآتي: لمن سيُعهد التفاوض مع الصندوق؟ للمجموعة نفسها التي تراهن على أن الصندوق سيوفّر الأموال للبنان بما يتيح إنعاش بعض التحويلات إلى الخارج، أو حتى لتسديد الودائع بالدولار نقداً!

الأولوية للقطاع المصرفي

في الواقع، لن يدفع الصندوق قرشاً واحداً «مخروماً» للبنان، قبل «إصلاح القطاع المصرفي». هذا الجزء لا يتجزأ من المسار. إصلاح القطاع المصرفي يعني توزيع الخسائر المتركزة بين مصرف لبنان والمصارف والمودعين. طبعاً يهتم الصندوق بأي طريق تسلكه الأمور: طريقة طباعة الليرات لتسديد الودائع وإطفاء الخسائر على مدى السنوات المقبلة، أم قصّ الودائع والتوصل إلى ترتيب مع الدائنين؟ الإنقاذ بواسطة المال العام، أم الإنقاذ بالخسائر التي حققها النظام؟ ما هي الكلفة المترتبة على المودعين؟ وعلى مساهمي المصارف؟ هذا أول حائط أمام مجموعة السلطة، ولن يكون الأخير.

قد يؤدي الانفراج السياسي إلى تسهيل ولوج لبنان إلى التمويل الدولي لكنه لا يلغي المسار التقني

فالحائط الثاني يتعلق بتوحيد سعر الصرف. التوحيد يعني ضرب القدرة الشرائية مجدداً، لكنه الوسيلة الاساسية من أجل فتح الباب أمام استثمارات تأتي إلى لبنان للاستفادة من بيئة إنتاج منخفضة الكلفة والتصدير في إطار مسار واضح لأسعار العملة والأصول.

الباب الثالث الذي سيطرقه الصندوق هو رفع الدعم. هذا الأمر سيكبّد مجموعة قوى السلطة خسائر كبيرة. فهي تعتمد على العمل الزبائني المموّل من الدولة. التوزيع يتم عبر قنوات القطاع العام بشكل أساسي وبقنوات أقل ظهوراً في القطاع الخاص. الدعم هو أحد قنوات التوزيع، سواء كان دعماً للكهرباء، أم دعماً للخبز، أم دعماً للمحروقات… وسواء استُعمل من مال الخزينة مباشرة أو من احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، فإن كل أنواع الدعم مفيدة زبائنياً.

النزف متواصل

هذه بضع عينات من مسار صندوق النقد الدولي وشروطه. ربما سيوافق الصندوق على تقديم الدعم النقدي للأسر الفقيرة من خلال طباعة الليرات، وربما لن يسأل عن آليات ضرب القدرات الشرائية سواء عبر سياسات ضريبية أم عبر مزيد من الانهيار في سعر الصرف، لكن الأكيد أنه سيحدّد سقوفاً ومؤشرات يجب الالتزام بها، وستكون مفاعيلها كبيرة على اللبنانيين المنهكين بالإفلاس. فالانهيار كبّد المقيمين في لبنان مدخراتهم ومداخيلهم، ودفع أكثر من نصفهم نحو خطّ الفقر، وبعضاً منهم إلى حافة الفقر، لكن الإجراءات التالية التي سيفرضها، إن لم تكن عادلة، ولم يكن هناك تعويض مقابلها، فسيصبح الفقر والبطالة عنوان موجات العنف المقبلة. كان يمكن أن تكون الإجراءات أقل قساوة وأقلّ مأسوية، لكن مجموعة السلطة خلقت الكثير من الأساطير في مواجهة الأزمة، منها التدقيق الجنائي، واحتجاز الأموال، والأموال المنهوبة، والدولار الطالبي، ودعم السلع الغذائية، ودعم المحروقات… بحجّة وجود سعر رسمي للدولار استنفدنا جزءاً أساسياً من الدولارات التي يفترض استعمالها من أجل النهوض. اليوم لم يعد لدينا أكثر من 16 مليار دولار والنزف متواصل.

(الاخبار)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى