الأحكام العرفية تداعب خيال ترامب: ملاك حمود
لا سُبُل أمام ترامب لاستعادة البيت الأبيض؛ تلك باتت من المسلّمات بعدما فشلت مساعيه القضائية لقلب النتائج، في إحداث التغيير المأمول منها. لكن الرئيس الذي ستنتهي ولايته قريباً ليس من النوع الذي ييأس أو يستسلم بسهولة للخسارة، وهو أصلاً لم يعترف بها، بل إن عارفيه يذهبون إلى حدّ القول إنه لن يستوعب الهزيمة مطلقاً. لهذا السبب تحديداً، مضافاً إليه مزاعم لجوء الديموقراطيين إلى تزوير الانتخابات عبر التصويت بالبريد، بدأ بعض “المُخلِصين” ينصحون ترامب باللجوء إلى فرض الأحكام العرفية وتسليم الجيش دفّة السلطتَين التنفيذية والقضائية حتّى يتمكّن من تنظيم انتخابات جديدة يُحدِّد الخاسر آلياتها بشكلٍ يتناسب مع نتائجها المرجوّة.
في «البلدة المجنونة»، كما سمّاها بوب وودوارد في كتابه «خوف»، قاصداً بها البيت الأبيض في ظلّ إدارة دونالد ترامب، لا شيء مستحيلاً. فكيف، والحال هذه، إذا كان المجنون نفسه لا يزال يردّد باقتناع مطلق، ليلَ نهار، أن مَن هم مثله لا يُهزَمون، وأنه سيلجأ إلى كلّ الأدوات والأحكام الممكنة لتحقيق الانتصار الذي رافقه على مدى سنواتٍ أربع. الغرق في تداعيات الهزيمة واليوم التالي يؤرّق الرئيس الأميركي المأخوذ كلّه بخسارة يأبى استيعابها، أو حتّى النظر في احتمالاتها، وإن كانت وقعت وانتهى به الحال، كما جورج بوش، رئيساً لولاية واحدة. لكنه، مع ذلك، لم يعدم مخرجاً أو طريقةً إلّا وجّربها. وكلّما طرق باباً بحثاً عن سبيل يقلب نتائج الانتخابات يوصَد في وجهه؛ فلا السُبل القضائية أحدثت الخرق المأمول، ولا صلوات مستشارته الروحانية والشموع التي أضيئت في انتظار المعجزة جاءت بواحدة، فيما لم ترفع «القنبلة الإنجيلية» من مقام «قورش العظيم» الذي بدأ القلق يتمدّد في أعماقه مع دخول رئاسته، أوّل من أمس، شهرها الأخير. قلقٌ دفع ترامب وبعض المقرّبين منه إلى طرح احتمال فرض الأحكام العرفية، ومنح الجيش سلطة مطلقة تمكّنه من تنظيم اقتراع رئاسي جديد علّه يعود منتصراً إلى البيت الأبيض.
لا تزال هزيمة الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي تلقي بثقلها على مستوى الولايات المتحدة، فيما يبدو الرئيس المنتخَب، جو بايدن، مهموماً بتركيب «حكومة الأوائل»، التي تحاكي في تنوّعها المصطنع ركاكة (بعض) أفلام «هوليوود» وسينما الصوابية السياسية. هزيمةٌ يمكن أن تتحوّل، في أيّ وقتٍ، إلى أزمةٍ دستورية، في ما لو مضى فريق المخلِصين في توجيه ترامب لتبنّي خيار على غرار فرض الأحكام العرفية. وهو خيارٌ تؤكّد وسائل الإعلام الأميركية أنه جرى تداوله منذ بداية الشهر الجاري في دوائر المؤيّدين المتحمّسين، لمنح الجيش السلطتَين التنفيذية والقضائية، أي القدرة على تنظيم انتخابات جديدة تعيد الرئاسة إلى «أصحابها». وعلى رغم النفي الصادر على لسان الرئيس الأميركي ووصفه الأخبار بـ»الكاذبة»، تفيد التسريبات بأن الفكرة طُرحت بالفعل للنقاش، يوم الجمعة الماضي، أثناء لقاء جمع ترامب إلى مستشاريه ومحاميه. لقاءٌ حضره مستشار ترامب السابق للأمن القومي، مايكل فلين، الذي منحه الرئيس المنصرف، أخيراً، عفواً بعد إدانته بالكذب على «مكتب التحقيقات الفدرالي» في التحقيق حول «التدخل الروسي» في انتخابات عام 2016، والذي حثّ ترامب على إعلان الأحكام العرفية لإعادة الاقتراع، على الأقلّ في الولايات المتأرجحة التي منحت بايدن الفوز. وبحسب مصادر «سي إن إن»، احتدّ النقاش حين اتّهم فلين مساعدي الرئيس، وفي مقدّمهم كبير موظفي البيت الأبيض، مارك ميدوز، بعدم فعل ما يلزم للدفاع عن ترامب. وليست هذه المرّة الأولى التي يروّج فيها المستشار السابق للجوء إلى هذه الأحكام، إذ دعا، الأسبوع الماضي، البيت الأبيض إلى إعلان حالة الطوارئ والاستعانة بالقوات المسلحة، لإجراء الانتخابات من جديد في الولايات الأربع التي حسَمت النتيجة، متحجّجاً، كما رئيسه، بأنها كانت «مزوّرة». دعوةٌ استند فيها الجنرال المتقاعد إلى قانون 1807 الذي يجيز للرئيس استخدام القوّات المسلّحة «لقمع تمرّد محلي» (يُقصد بالتمرُّد أن الحزب الديموقراطي قام بعملية انقلاب انتخابي لكسب أصوات غير شرعية). ويستند فلين وغيره في هذه الدعوات إلى طيف واسع من أنصار ترامب الذين يصرّون على أن خصوم الرئيس سرقوا الانتخابات، وسط تلويحهم باللجوء إلى العنف الذي بدأت تظهر بوادره أخيراً في العاصمة واشنطن. يجيء ذلك قبل شهر على نهاية رئاسة ترامب في 20 كانون الثاني/ يناير المقبل، وبعد استنفاد جميع السبل القضائية لقلب النتائج في الولايات الحاسمة، ولا سيّما بعد مصادقة «المجمع الانتخابي»، الأسبوع الماضي، على نتائج الانتخابات. ولا يزال يتعيّن تحصيل موافقة الكونغرس على الانتخابات يوم السادس من كانون الثاني/ يناير، والتي تبدو مضمونةً، خصوصاً بعد اعتراف زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ، السناتور ميتش ماكونيل، بفوز بايدن، واعتزامه تمرير الموافقة من دون اعتراض، خلافاً لرغبة ترامب.
أثار ترامب احتمال الاستيلاء على ماكينات التصويت كجزء من الجهود المبذولة لمتابعة مزاعم التزوير
على أيّ حال، يبدو أن ترامب لمّح أيضاً إلى احتمال تعيين المحامية سيدني باول – التي طُردت من الفريق القانوني لحملته الانتخابية بعد ترويجها نظريات مؤامرة وتهديدها بـ»تفجير قنبلة إنجيلية» إذا لم تذهب ولاية جورجيا إلى إعادة فرز الأصوات يدوياً بعدما أعلنت وسائل الإعلام فوز بايدن فيها – مستشارة خاصّة جديدة تتولّى التحقيق في مزاعم تزوير الانتخابات. وباول هذه كانت قد ساقت نظريّات مؤامرة عديدة حول الانتخابات، منها أن أنظمة الانتخابات قد صُمِّمت في فنزويلا بـ»أمر من هوغو شافيز»، كما زعمت أن شركة «دومينيون»، التي تصنع آلات التصويت، أسهمت في فوز بايدن، إذ إن آلاتها تحتوي على مشكلات تقنية أدّت إلى قلب الموازين لمصلحة نائب الرئيس السابق. ومنذ أسابيع، تؤكّد هذه المدّعية الفدرالية السابقة البالغة 65 عاماً أنها كشفت مؤامرة عالميّة لإفشال دونالد ترامب. ووفقاً لتقرير نشر في صحيفة «وول ستريت جورنال»، عقد ترامب اجتماعاً مع كين كوتشينيلي، ثاني أكبر مسؤول في وزارة الأمن الداخلي، وأثار معه احتمال الاستيلاء على ماكينات التصويت كجزء من الجهود المبذولة لمتابعة مزاعم تزوير الاقتراع. ونسبت الصحيفة إلى أشخاص مطّلعين على فحوى الاجتماع قولهم إن المحامين الحاضرين رفضوا ذلك، قائلين إن الإدارة تفتقر إلى السلطة للقيام بتلك المهمة، وهو ما أيده كوتشينيلي. ووفق «نيويورك تايمز»، رفض أغلب مستشاري الرئيس الأميركي فوراً فكرة إعلان الأحكام العرفية، كما رفض كثيرون منهم أيضاً مقترحاً آخر للرئيس، وهو تسمية المحامية سيدني باول مدعية خاصة مكلفّة بالتحقيق في وجود إخلالات انتخابية مستقبلاً.
لا قانون للأحكام العرفيّة
لم تلجأ الحكومة الفدرالية إلى الأحكام العرفية منذ الحرب العالمية الثانية. وهي أحكام لا تُفرض إلّا في حالات الضرورة القصوى، مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية أو أحداث الشغب التي يمكن أن تخرج عن السيطرة، ولكن ليس في حالة اعتزام رئيس خاسر في الانتخابات قلْب النتائج لمصلحته، كما يؤكّد الجيش الأميركي. ويمنح القانون العرفي القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، أي ترامب، سلطات مطلقة. وبحسب “مركز برينان للعدالة”، فإن الأحكام العرفية أُعلنت 68 مرّة على امتداد التاريخ الأميركي، لكنها ليست مذكورة في الدستور، ولا يوجد قانون في الكونغرس يحدّد أُطرها. وفُرضت الأحكام العرفية للمرّة الأولى في عام 1814، مع اقتراب نهاية الحرب الأميركية ــــ البريطانية (فرضت الرقابة على الصحف وحظر التجوال، كما جرى اعتقال أشخاص من دون أن توجَّه اتهامات إليهم). كذلك، جرى اللجوء إلى هذه الأحكام بكثافة منذ بداية الحرب الأهلية الأميركية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في الولايات وعلى مستوى البلاد.
(الأخبار)