حان الوقت لتشييع الجامعة العربيّة إلى مثواها العبريّ الأخير!: د. عدنان منصور*
بعد اعتراف ستّ دول عربية بالكيان الصهيونيّ، (بما فيها «دولة» فلسطين العليّة)، وكان آخرها اعتراف المغرب رسمياً به بعد مساكنة طويلة مع تل أبيب استمرّت لأكثر من خمسين عاماً، في الوقت الذي يحمل ملكها اللقب الرسميّ «أمير المؤمنين»، ويرأس في الوقت ذاته لجنة القدس…! يستمرّ قطار الاعتراف بالعدو الصهيونيّ في سيره، ينتظر في أكثر من محطة، هرولة أكثر من دولة عربية أخرى تستعدّ بدورها، للصعود إليه، واللحاق بالركب «الإسرائيلي»، بعد أن تدفع ثمن بطاقة الالتحاق.
أمام تزاحم بعض «العرب» للظفر بالاعتراف بالكيان «الإسرائيلي»، يتساءل المواطن العربيّ الحرّ المقاوم للاحتلال الصهيوني لفلسطين، ونتساءل معه: ما الذي بقي أو سيبقى من اعتبار وصدقيّة وكرامة لزعماء عرب، ولمؤسسة عربية رسمية رفيعة، حملت يوماً اسم جامعة الدول العربية، التي كانت أولى اهتماماتها الدفاع على القضية الفلسطينية، والعمل على استرجاع الأرض المغتصبة، وحقوق الشعب الفلسطيني؟! جامعة دول لم نشهد في داخلها، ومنذ نشوئها وحتى اليوم، سوى الاستعراضات، والمناكفات، والتباينات الحادة في المواقف، والعداوات على المستوى الرسمي والشخصي التي لم تتوقف، وتربّص دولة بأخرى، مع ما يرافق هذا من رفعها شعارات برّاقة، ومزايدات على القضايا القومية، من خلال اتخاذ قرارات اعتبروها على الدوام تاريخيّة، ظلت حبراً على ورق، لم يطبّق منها شيء. ولعلّ قرارات الجامعة العربية بمقاطعة «إسرائيل» تدلّ على حجم التناقض بين القول والفعل في تعاطي دول عربية مع هذه المقاطعة ومدى صدقيتها والتزامها بها.
لقد كانت الجامعة العربية على الدوام جامعة «الخلافات» العربية، والسياسات المتباينة والمتباعدة، والمتناقضة في ما بينها، متعارضة مع روح ميثافها وجوهره، بالإضافة الى ما يختزنه البعض في داخله من أحقاد، وضغائن، وتصفية حسابات شخصية، ونزعات قبلية ثأرية، ما جعلها بعيدة كلّ البعد عن الغاية التي أنشئت من أجلها، مع غياب واضح لوحدة الصف والهدف، وابتعادها عن العمل الجماعي الموحد والثابت.
نتيجة هذا الأداء الهشّ، والمردود المتواضع الهزيل، والسلوك المتغيّر من آن إلى آخر، أصبحت قرارات الجامعة على مدى عقود، مثار تهكّم وسخرية، من قبل الشعوب العربية، ودول العالم، التي لم تعد تأخذ على محمل الجدّ عمل الجامعة ونتائجها، وأداءها، و»إنجازاتها» وهي تتابع ما يجري من اجتماعات، وترصد حركتها وكواليسها، وقراراتها التي لا فعالية لها ولا طعماً، وتتابع «النتائج» العقيمة، والمواقف المتخبّطة المتذبذبة داخلها. إذ أنها منذ نشوئها وحتى هذا الوقت، لم تحقق الجامعة العربية إنجازاً قومياً تاريخياً واحداً على مستوى الأمة كلها، يليق بها، تستطيع أن تفاخر به، وتتباهى أمام شعوب أمتها، وأمام العالم كله.
لقد كانت الجامعة العربية على الدوام، دون مستوى المسؤولية، وتطلعات وطموحات الشعوب العربية وآمالها. وإذا ما أرادت أن تعرف رصيدها الحقيقي، ما عليها إلا أن تنزل الى الشارع العربي الممتدّ من شاطئ المحيط في موريتانيا والمغرب، الى العراق، وتستطلع رأي المواطن العربي بدورها وأدائها وإنجازاتها، عندها ستعرف مدى حجم الرصيد الفعلي لا الوهميّ، الذي تتمتع به داخل «جامعة الشعوب العربية»!
كيف لا، وهي التي حوت في داخلها تناقضات وحساسيات الأنظمة تجاه بعضها البعض، وهشاشتها وعيوبها. فكانت الشاهد دوماً على خلافات الحكام الرسمية، والشخصية، ونياتهم «الطيبة» المبيّتة حيال بعضهم البعض، وما يختزنه «الشقيق» في داخله من خشية وحيطة وتحفظ وحذر، وغياب الثقة المتبادلة التي تعمّق الكراهية بين الشقيق وشقيقه، حتى إذا ما سنحت الفرصة، أنقضّ أحدهما على الآخر من دون تردّد، متذرّعاً بحجج وأسباب واهية تدفعه الى ذلك…
سلوك الجامعة العربية، ظهر على حقيقته بكلّ قوة، وبشكل واضح منذ عشر سنوات، بعد أن تورّطت وورّطت نفسها عن سابق تصوّر وتصميم، وزجّت نفسها في المشاكل الإقليمية، وتدخلت بشكل سافر في الشؤون الداخلية لأكثر من دولة عربية، لتكون طرفاً متهوّراً، منحازاً ضدّ طرف آخر، ما شوّه الأهداف النبيلة التي من أجلها أنشئت الجامعة، وكشف بشكل لا لبس فيه، فشل دورها، وأدائها، وعملها، ومسؤوليتها القومية وحيادها وصدقيتها ونزاهتها، بسبب رضوخها لهذا الطرف على حساب ذاك، ضاربة عرض الحائط دستور ميثاقها وروحه وجوهره، حيث تجاوزته بشكل فاضح ومستهجن، ما طرح تساؤلات عديدة. خاصة بعد أن وقفت بجانب قوى الإرهاب، التي ضربت في سورية ولبنان والعراق وليبيا وغيرها، معتبرة إياها قوى معارضة وطنية، تهدف الى التغيير وتحقيق الحرية والعدالة، وصون حقوق الإنسان. جاء هذا، بعد أن صادر قرارها أكثر من دولة عربية، لتصبح الجامعة بمن فيها، في خدمة من يحرّكها ويديرها، ويوجّهها خلف الستار من الخارج، ويحدّد خطواتها، ويرسم سياساتها… ولعلّ الأدلة الدامغة على تورّط الجامعة العربية في تدمير أكثر من دولة عربية، هي التي اعترف بها في ما بعد، رئيس وزراء قطر، وزير خارجيتها حمد بن جاسم، أحد أبرز مهندسي، وراسمي، ومخرجي ومنفذي قرارات الجامعة العربية ذات الصلة، عندما اعترف بصراحة تامة لوسائل إعلام عربية وغربية (جريدة Financial times الفينانشل تايمز، وقناة الجزيرة والـ BBC وغيرها)، بتمويل بلاده ومن معها، لعمليات انشقاق في الجيش السوري، وتزويد شخصيات عربية بالمال، مقابل دور كبير في الحرب السورية، موضحاً أيضاً أنّ الدعم العسكري الذي قدّمته قطر للجماعات المسلحة في سورية، كان يذهب بالتنسيق مع الولايات المتحدة، حيث كان يوزع كلّ شيء عن طريق القوات الأميركية والأتراك. (!!!) كما ذهب بعيداً بصراحته ليقول أيضاً: «إننا تهاوشنا على الفريسة (سورية) التي ضاعت منا أثناء تهاوشنا عليها»!
فلتكشف لنا الجامعة العربية، أوراقها و»أسرارها» بكلّ صراحة وشفافية، حول حقيقة الدور وخفاياه، الذي قامت به تجاه الأحداث الدامية التي ضربت دولاً عربية؟! وما الذي فعلته الجامعة لإنهاء الحرب الدائرة في الصومال، وليبيا واليمن، ومواجهة قوى الإرهاب في العراق وسورية، وجرائم الاحتلال الصهيونيّ في فلسطين والجولان السوري، ولبنان وغيره واعتداءاته المتواصلة! ما الذي فعلته لإحباط محاولات الانفصال ومؤامرات التقسيم الجارية في أكثر من بلد عربي؟!
إنها الجامعة العربية! هدمت ولم تبنِ، فرّقت ولم توحّد، قسّمت ولم تجمع، أضعفت ولم تقوِّ، بدّدت ولم تصُن، رضخت لأولياء النعمة، ولم تُعِر اهتماماً لمصالح شعوبها، وأمتها، وأمنها القومي، فاستسلمت للعدو المهدّد الدائم للسلام والأرض، والأمن القومي للأمة كلها، ورضخت لقوى التسلط، وتراجعت عن دورها، وتخلت عن وعودها ورسالتها، وفرّطت بحقها، وبقراراتها القومية التي اتخذتها وصبّت في صالح العدو وقوى الهيمنة الغربية…
لقد كانت قضية فلسطين، ساحة خصبة لكلّ التناقضات العربية، التي تزاحم على أرضها اللاعبون من الزعماء العرب منذ نشوئها عام 1945، ليؤدّي على ملعبها كلّ واحد منهم دوره حسب أهوائه، وانتماءاته، وسياساته، وارتباطاته ونياته، وأهدافه. فكان منهم المناضل المقاوم، الثابت على المبادئ والقيم الوطنية القومية العليا، الملتزم بقضايا أمته وحقوق شعوبها، لا يهادن ولا يساوم، ولا يستسلم، خاصة في ما يتعلق بقضية العرب الأولى فلسطين، معتبراً إياها مسألة وجود الأمة وأمنها وحريتها ومستقبلها. ومنهم مَن تآمر، وتخاذل، وساوم على القضية وغدر بها، في بازار قوى المصالح والسيطرة، والنفوذ، ورضخ لإملاءات وأوامر سيده في الخارج، في حين كان يزايد علناً وباستمرار، مظهراً نفسه الحريص كلّ الحرص، على تأييده ودعمه لفلسطين وحقوق شعبها، وغيرته واستماتته في الدفاع عنها بكلّ الوسائل، دون التفريط بها بأيّ شكل من الأشكال.
مزايدات تلو المزايدات كانت تخفي باستمرار في نفوس مطلقيها، كمّاً كبيراً من النفاق، والخداع، والخبث، والغدر، والخيانة…
اليوم، بعد الزحف والاعتراف بالكيان الصهيوني، لتقل لنا الجامعة العربية صراحة، ومعها المهرولون والمطبّعون، وليقل لنا أمينها العام أبو الغيط، الذي لم نسمع منه موقفاً قومياً شجاعاً، أو تعليقاً مشرّفاً يليق بقضية الأمة المركزية، ويكون على مستوى المسؤوليّة القوميّة والعربيّة، ليبيّن لنا ردّه ورأيه «الواضح» و»الصريح»، حيال الاعتراف العربي بالعدو والتطبيع معه، ومدى التزام الأمين العام، وتمسكه بقرارات «جامعته»، ومعرفة ما إذا كان مع الاعتراف أو ضدّه، حيث جاء صمت الأمين العام، وكأنّ على رأسه الطير، والشاهد الذي «ما شفش حاجة»…
فأين هي قرارات الجامعة العربية حيال «إسرائيل» التي شغلتم العرب والعالم بها لمدة عقود، ومنذ تأسيس كيان الاحتلال، وأين أصبحت اليوم؟! وأين هي لاءات العرب الثلاث: لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف بـ «إسرائيل»، بعد أن زحف بعض «العرب» على بطونهم للاعتراف بكيانها، في الوقت الذي تصفع فيه «إسرائيل» وجوههم بلاءاتها الستّ: لا لعودة القدس إلى وضعها السابق، لا لعودة اللاجئين، لا لإزالة المستوطنات ووقف الاستيطان، لا لعودة الضفة الغربية كاملة للفلسطينيين، لا للتخلي عن الجولان، ولا لدولة فلسطينية موحدة الأرض والشعب.
بعد هذا الانهيار والتخاذل، والانحطاط في الموقف العربي، تجاه القضية المركزية والأمن القومي العربي، التي شكلت على مدار الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، محور النضال، وبوصلة العمل العربي المشترك، نقول بصوت عال: ما الذي بقي من صدقية للجامعة العربية كي تواجه بها شعوبها، وتواجه العالم الذي لم ينظر إليها يوماً إلا باستخفاف، وهو الذي خبر جيداً نتائج قممها، وجدية وسلوك حكام دولها وزعمائها، والقيّمين عليها، والمسؤولين فيها، وعرف حقيقة معدنهم، وصدقيّتهم، وما يقولونه في العلن، ويفعلونه في السرّ، ما يضمرونه ويبيّتونه لبعضهم البعض، وما يرفعونه من شعارات لا تعكس بالمرة ما ينفذونه على الأرض… وما فلسطين إلا نموذج وشاهد على أفعالهم.
كيف يمكن لجامعة عربية أن تستمرّ بالدفاع عن الحقوق العربية، والعمل على تحرير الأراضي المحتلة، وتؤدي دورها الفاعل، على الصعيد القومي، والسياسي، والاقتصادي، والعسكري، والثقافي، وفي داخلها دول مقاومة ورافضة لدولة الاحتلال «الإسرائيلي»، ودول ترى في دولة الاحتلال، دولة حليفة لها بل شقيقة؟!
بعد كلّ الذي نشاهده ونلمسه من واقع مرير، وانحطاط وعمالة وذلّ أدمن عليه البعض في هذه الأمة وتعايش معه، ترى شعوب الأمة العربية كلها، ونرى معها أنها أحوج ما تكون الى «جامعة الشعوب العربية» بكلّ نشطائها وفعالياتها وقواها الشعبية كي تتصدّى بحزم لأيّ تعاون مع العدو، وتجهض تداعيات الاعتراف بالعدو، مثل ما فعله ويفعله شعب مصر والأردن الأصيل برفضه للتطبيع. لذلك لا داعي بعد اليوم، لوجود جامعة عربية من هذا الطراز الوضيع، في نهجها وسلوكها وأدائها، ومهامها، طالما أنّ قرارات النهار، يمحوها أشباح ليل الجامعة المتحكّمون بها، والمهيمنون عليها، لتغدو اليوم جثة ميتة، يصعب إحياؤها. لذلك، ليس أمام المهرولين والمطبّعين بعد الآن، إلا تشييعها الى مثواها العبري، لأنه المكان الوحيد الذي تستطيع أن تحظى فيه على المديح والتكريم والتأبين!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.
(البناء)