القوى «الخفية» في الولايات الأميركية المتحدة… ½: زياد حافظ*
1 – من هي؟
الانتخابات الأميركية الأخيرة التي لم ينته مسلسلها ولا تداعياتها عند كتابة هذه السطور كانت وما زالت مفصلية على أكثر من صعيد. فهي تشكّل نقطة تحوّل معلن في مسار الدولة التي تشهد للمرّة الثانية في تاريخها امتحاناً حول كيانها وحتّى وجودها. المرّة الأولى كانت الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر واليوم هي على أبواب مرحلة أكثر خطورة من الحرب الأهلية. لسنا في هذه المقاربة معنيين بشكل مباشر في استشراف مستقبل الولايات المتحدة بل في محاولة فهم كيف تجري الأمور على الأقل منذ بداية التسعينات ومن هي القوى التي تسيّر الأمور. ففي هذه المقاربة سنعرض أولا هوية القوى التي تتحكّم بالولايات المتحدة على الصعيد الداخلي والخارجي ثم نعرض ثانيا كيف تعمل وثالثا ماذا فعلت وأخيرا ما هو مستقبلها.
ما يُسمّى بدولة المؤسسات والقانون ليست إلاّ واجهة رسمية لقوى غير رسمية تمتلك القرار والقدرة على توجيه الدولة. البعض يسمّيها الدولة العميقة وآخرون يسمّيها شبكة مصالح اقتصادية ومالية والبعض يعتبر أن أجهزة المخابرات هي التي تتحكّم بالأمور. هذه التسميات في رأينا جزئية وتتكامل مع بعضها البعض وتعمل على إيهام الناخب الأميركي بأنه هو الذي يقرّر. لكن التطوّرات الداخلية والخارجية كشفت الثغرات البنيوية في الكيان الأميركي والتي ظهرت مع سقوط الاتحاد السوفيتي ما أدّى إلى محاولات عديدة من قبل القوى الفاعلة التي تصنع القرار والتوجّهات العامة لمسار الأمور لتوقيف أو أبطاء الانحدار الحتمي الذي ينذر بزوال الكيان وإحلال مكانه كيانات متعدّدة. لسنا متأكدين أنها ستنجح في تصحيح الأمور لأنها قوى منقطعة عن الواقع الشعبي مكتفية بقوّامة مكانتها في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغير مكترثة لما تعتبرهم من المنبوذين (deplorables) على حد وصف هيلاري كلنتون لنصف الشعب الأميركي. لكن للإنصاف نذكّر هنا أن نائب الرئيس الأسبق ديك شيني كان موقفه مشابها عندما عبّر عن عدم اكتراثه بمزاج الشعب الأميركي الذي كان يتظاهر ضد الحرب على العراق. فاحتقار النخب الحاكمة للشعب الأميركي موجود في الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة!
في البداية لا بد من توضيح مهم: هذه القوى ليست «خفية» أي يجهلها العالم وليست تنظيما أو جبهة بالمعنى المألوف أو مترابطة بشكل تنظيمي ما يجعل تحديد هويتها أو شكلها أكثر صعوبة. فهي شبكة من المصالح والعلاقات عبّر عنها في مطلع الستينات من القرن الماضي الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطابه الشهير قبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب جون فيتزجرالد كندي. حذّر الرئيس آنذاك من خطر المجمّع العسكري الصناعي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار لا مصالح الشعب ولا قيم الجمهورية التي قامت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، بل مصالح شركات التصنيع للسلاح بشكل عام واللوبيات التي أنشأتها لتعمل لصالحها في أروقة السلطة في واشنطن فتفسد المؤسسات الدستورية والحياة السياسية.
قائمة هذه القوى طويلة نسبياً ومتحرّكة أي أنها تضمّ قوى نتجت مع وعن التحوّلات التكنولوجية والاقتصادية عبر تاريخ الولايات المتحدة وبالتالي يستحيل اعتبارها ثابتة. كما أن دور مكوّناتها يتغيّر مع التحوّلات الاقتصادية حيث شهدنا شركات عملاقة مختصة بقطاعات معيّنة تدخل إلى قطاعات جديدة أو تندمج مع شركات أخرى. فعلى سبيل المثال، شركة هاليبرتون النفطية أصبحت شركة مقاولة لوزارة الدفاع أي نجد هنا القطاع النفطي يتماهى مع القطاع التصنيعي العسكري أو المرتبط بشؤون الدفاع. كما لا يجب أن يغيب عن البال أن الانترنت ولد من رحم وزارة الدفاع فليس من المستغرب أن تصبح الشركات المعنية بالتواصل والمعلوماتية جزءاً من المؤسسات المقاولة في الحروب السيبرية نيابة أو بالتنسيق مع وزارة الدفاع وبالتالي تلعب دورا كبيرا في توجيه (أو إفساد) الرأي العام لصالح وجهة معيّنة أو ضد وجهة أخرى. ونلاحظ أيضا أن شركات تصنيع معدّات حربية دخلت قطاع الإنتاج المعلومات مع تطبيقات عسكرية كشركة رايثيون التي استولت على شركة تكساس انستريمنت التي كانت تصنّع الحاسوب. وحتى شركات التوزيع للمواد الاستهلاكية كشركة امازون دخلت قطاع المعلوماتية الأمنية كما تدلّ العقود الكبيرة بمئات الملايين من الدولارات بينها وبين وكالة الاستخبارات المركزية. من هنا نفهم معاداة صحيفة ألواشنطن بوست التي يملكها جيمس بيزوس المساهم الأكبر والمؤسس لشركة امازون للرئيس الأميركي دونالد ترامب. فالعلاقة المتوترة بين ترامب ووكالة الاستخبارات المركزية تُرجمت بعداء الصحيفة للرئيس وذلك منذ الساعات الأولى لانتخاب ترامب سنة 2016.
لذلك يذهب بعض الكتّاب كتوم انجلهاردت في وصف الولايات المتحدة كدولة أمنية بامتياز مع تكاثر المؤسسات الأمنية والاستخبارية (17 حتى الآن!) التي أصبحت مجتمعا قائما بحدّ ذاته وذلك إضافة إلى الشركات الأمنية التي «تقاول» وزارة الدفاع في مهام لا تستطيع قانونياً الوزارة لقيام بها. فمجمع الوكالات الاستخبارية في الولايات المتحدة لعب دورا بارزا لأسقاط ترامب منذ البداية أو عرقلة اجندته السياسية في العلاقات مع كل من روسيا والصين وكوريا الشمالية. والعلاقة بين المؤسسات الأمنية والاعلام الشركاتي المهيمن أصبحت علاقة عضوية في تبادل المنافع. فمن جهة توفر المؤسسات الأمنية لمعلومات التي تريد ترويجها بينما بالمقابل يقوم الاعلام المهيمن بحماية وتثبيت أي سردية تريدها المؤسسات الأمنية. كذلك الأمر أصبحت العلاقة بين شركات التواصل الاجتماعي كفيس بوك وغوغل ويويتيوب وتويتر والمؤسسات الأمنية توجّه سياسات تلك الشركات في ممارسة الرقابة على مستخدمي خدماتها.
اما القطاع السنيمائي الأميركي فمنذ الحرب العالمية الثانية كان البوق الإعلامي لإنجازات القوّات المسلّحة وما زال حتى الساعة. فالبطولات العسكرية الأميركية هي على الشاشات الفضيّة وليست في الميدان حيث سجل القوّات المسلحة سلبي منذ الحرب الكورية إلى حرب فيتنام إلى احتلال فاشل في كل من أفغانستان والعراق إلى فشل في الصومال ولبنان، باستثناء احتلال جزيرة غرانادا في البحر الكاريبي.
ما أشار إليه الرئيس أيزنهاور آنذاك هو لمجموعة من الشركات التي تصنّع الأسلحة وتبيعها لوزارة الدفاع كشركة جنرال دايناميكس ولوكهيد مارتن وبوينع ونورثروب على سبيل المثال وليس الحصر. وهذه الشركات وزّعت مصانعها في عدّة ولايات حيث أأصبح نفوذها السياسي كبيرا جدّا سواء على صعيد التوظيف أو على الصعيد الاقتصادي والمالي لاقتصادات الولايات التي تعمل فيها وبالتالي أصبح السياسيون المنتخبون في تلك الولايات من المدافعين عن تلك الشركات ويناضلون للحصول على المزيد من العقود مع وزارة الدفاع لتأمين نمو وأرباح الشركات وبالتالي لاستمرارها في الولاية المعنية. وفي مطلع التسعينات أصبحت تلك الشركات أكبر شبكة توظيف عمّالي كما أصبحت المحرّك الأساسي للعجلة الصناعية في الولايات المتحدة. فشركات الدفاع هي أيضا التي تموّل الأبحاث العلمية والتكنولوجية التي تقوم بها الجامعات والمختبرات لأغراض عسكرية أولا وثم لأغراض تجارية. فالصناعات العسكرية هي الدافع الأهم للتفوّق التكنولوجي للولايات المتحدة على عدّة عقود من الزمن إلى أن صعدت كل من روسيا والصين.
شركات المجمع العسكري الصناعي هي التي تتعامل مع وزارة الدفاع وتبيع المعدّات العسكرية. ففي السنة المالية 2018/2019 كانت شركة لوكهيد مارتن أول المقاولين بنسبة 12،5 بالمائة من مجمل المقاولات بما يوازي 48 مليار دولار تليها شركة بوينغ بنسبة 6،9 بالمائة أو ما يوازي 26،3 مليار دولار ثم جنرال دايناميكس بنسبة 4،31 بالمائة أو 16،5 مليار. ثم هناك قائمة تضم كل من ريثيون ونورثروب غرونمن ويونايتد تكنولوجيه بنسبة 10 بالمائة أو ما يوازي 40 مليار تقريبا. الجدير بالذكر أن شركة التأمين الصحّي هومانا كانت بالمرتبة السابعة بنسبة 1،76 بالمائة ما يوازي 6،7 مليار دولار. وبما أن وزارة الدفاع تحظى بأكبر ميزانية في الدولة والتي وصلت إلى أكثر من 700 مليار سنويا (وهي أقرب للترليون دولار إذا ما أضفنا ميزانية وزارات أخرى مرتبطة بالدفاع كوزات النقل ووزارة الأمن القومي) نرى أن تلك الشركات تأخذ حصّة كبيرة من الموازنة العامة للولايات المتحدة. فهناك علاقة عضوية بين الدولة وشركات التصنيع العسكري حيث الأخيرة هي التي تشغّل بالمرتبة الأولى العجلة الصناعية وهي التي تؤمّن التوظيف لشرائح واسعة من العاملين والمتواجدة في ولايات عديدة وبالتالي يصبح «رأيها» حاسما في دوائر القرار السياسي. ولا يجب أن نستغرب ذلك فالولايات المتحدة قامت على الحرب وإبادة الشعوب واستعباد الإفريقيين لتشغيل مزارع القطن واستغلال الصينيين لبناء شبكات سكة الحديدة كما قامت على التوسّع الدائم والحروب. فبنية الاقتصاد هي للحروب الدائمة وامتدت من الحلقة الضيّقة للتصنيع العسكري لتشمل مجمل القطاعات الاقتصادية والمالية.
فلقائمة لتلك شبكة المصالح المرتبطة بعضها ببعض عضويا لا تشمل فقط الشركات والقطاعات الصناعية بل دخلت فيها المؤسسات المالية وتوسّعت لضم الجامعات (نعم الجامعات) ومراكز الأبحاث واللوبيات إضافة إلى الاعلام الشركاتي التي أصبحت ملكيته بنسبة 90 بالمائة لست شركات فقط. فالرأي العام أصبح صنيعة ست شركات التي تفرض الرأي الواحد بالتراضي ودون منافس له. هذا هو ربما الفرق بين الأنظمة الشمولية الدكتاتورية والنظام القائم في الولايات المتحدة. فالشمولية واحدة في كلا الحالتين ولكن الأولى تٌفرض قسرا بالقوّة الأمنية والترهيب بينما الثانية استطاعت فرض الرأي الواحد بالتراضي. هذه هي قوّة النظام الرأس المالي الذي يسعى إلى السيطرة عبر اقناع الجمهور الواسع بأن الخضوع له هو لمصلحة ذلك الجمهور. هذه هي فلسفة الدعاية التي تُقنع المستهلك لشراء ما ليس له حاجة فيه! الدعاية تُستخدم لحاجات تجارية ولحاجات سياسية في آن واحد والولايات المتحدة أبدعت في فن التسويق والترويج عبر صناعة الأفلام والمشاهد الاستعراضية التي تحاكي غرائز الفرد وتحاول إشباعها.
أما على صعيد المؤسسات المالية يكفي أن نشير إلى أن حوالي 75 بالمائة من الأصول المالية تملكها أو تسيطر عليها خمس مؤسسات مالية وأن ملكية تلك المؤسسات هي بيد أربع شركات فقط، أي هذه الشركات هي التي تتحكّم بالقرار المالي. لذلك نرى أن معظم المسؤولين في وزارة الخزينة الأميركية في إدارة كلنتون وبوش الابن واوباما وترامب «خرّيجو» تلك المؤسسات وبالتالي لا يجب أن نستغرب التشريعات التي تصبّ دائما في مصلحة تلك المؤسسات المالية.
2 – كيف تعمل؟
هذه الشبكة من المصالح المختلفة أصبحت متداخلة بعضها ببعض. فهي تنتج من ناحية النخب التي تساهم في صنع القرار وتّروّج له كما أنها تتداول المهام في القطاع العام والقطاع الخاص بشكل مستديم ومنتظم. فكثيرون من المسؤولين السياسيين عملوا في القطاع الخاص وفي مراكز الأبحاث والجامعات كما أن كثيرا من العاملين في القطاع الخاص في المراكز القيادية عملوا في القطاع العام ومراكز الأبحاث. وعندما ينتهي مسؤول من عمله في القطاع العام يعود إلى القطاع الخاص سواء في الشركات الكبيرة أو في اللوبيات أو «الشركات الاستشارية» أو في مراكز الأبحاث أو في الجامعات ثم تدور الكرّة مرّة أخرى. خير دليل على ذلك مراكز الأبحاث التي يشكّل أعضاءها قائمة من السياسيين المرموقين والجامعيين البارزين والإعلاميين أصحاب الانتشار والاقتصاديين والماليين الذي يساهمون في تمويل تلك المراكز أو يقدّمون «وجهات نظر» للتوجهات المطلوبة.
لتوضيح ما نعرضه نشير مثلا إلى مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية الذي أُسّس سنة 1962 في رحاب جامعة جورج تاون (الجامعة المرموقة كانت الحاضنة لما أصبح أهم مركز أبحاث في السياسات الدولية). ومن أبرز قيادتها كان المستشار الأمن القومي السابق زبغنيو برجنسكي خرّيج جامعة هارفارد. هنا نرى التداخل بين الجامعة ومراكز الأبحاث والدولة ومؤسساتها. من جهة أخرى إن قائمة مموّلين ذلك المركز تضم الشركات الكبرى كبنك او اميركا وشركة شيفرون النفطية وشركة نورثتروب غرونمن التي تصنّع الطائرات الحربية، وشركة بوينغ للطيران وشركة جنرال ايرونوتيكال سيستمز وشركة لوكهيد التي تصنع أيضا المعدّات الحربية وشركة بختل المقاولة وجنرال دايناميكس وشركة مكافي المختصة في المعلوماتية وريثيون التي تصنّع صواريخ الباتريوت. هذا بعض من القائمة الطويلة التي تموّل هذا المركز بنسبة 30 بالمائة. ويجب الإضافة إلى تلك القائمة المصغّرة النموذجية للشركات قائمة تضم المؤسسات الخيرية أو غير الخيرية (foundations) كمؤسسة بيل غيتس ومؤسسة كارنجي على سبيل المثال التي تموّل حوالي 29 بالمائة من مالية المركز. كما أن المركز أصبح يستقبل مساهمات دول أجنبية كدول الخليج على سبيل المثال حيث دولة الإمارات العربية المتحدة تُعتبر من كبار المساهمين للمركز. ومساهمة الدول الأجنبية توازي 14 بالمائة من مالية المركز. ومركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (سي أس أي إس) لا يختلف عن العديد من المراكز المشابهة كالمجلس الأطلسي صاحب النفوذ الكبير في صنع القرارات الاستراتيجية في السياسات الخارجية لمختلف الإدارات. ضيق المساحة لا تسمح لنا بالتفصيل عن آلية عمل تلك المؤسسات وكيف تساهم في صنع القرار ومن خلال صنع القرار يتم «اختيار» الواجهة لكل ذلك أي الرئيس. نكتفي بالإشارة إلى أن معظم قرارات الإدارات المتتالية منذ عقود تٌبنى على «دراسات» و«تقديرات موقف» تعدّها تلك المراكز.
تتفّق معظم هذه المراكز ومعها الشركات التي تموّلها على تمكين سياسية الهيمنة المستديمة للولايات المتحدة على دول العالم. فطبيعة النظام الأميركي كانت مبنية على التوسّع في القارة الأميركية وعندما انتهت من السيطرة على المساحة الجغرافية التي أصبحت الولايات المتحدة اتجهت جنوبا نحو أميركا اللاتينية فكانت نظرية جيمس منورو في الربع الثاني من القرن التاسع عشر الذي حذّر الدول الأوروبية من التدخّل في شؤون القارة جنوبا. كما توجّهت غربا فاحتّلت جزر الهاواي وفي نهاية القرن التاسع عشر احتلّت الفيليبين في عهد الرئيس ماكنلي. الحرب هي سمة النظام الذي صرف أكثر من 215 سنة من عمره الذي لا يتجاوز 250 سنة في الحروب. حاليا الولايات المتحدة منخرطة في سبع حروب أو نزاعات بشكل مباشر أو غير مباشر وبالتالي «المصلحة» الوطنية هي الحروب ومن هنا نفهم دور المجمع العسكري الصناعي والمالي. فالطبقة المالية تستفيد من الحروب حيث تكون المساهم الأكبر في تمويل مشاريع إعادة البناء لذلك تدفع الجهات المعنية إلى تدمير الدول لإعادة بناءها. هذا هو فحوى نظرية رأس مالية الصدمة (shock capitalism) التي عبّرت عنها الكاتبة الكندية نعومي كلاين. هذه هي طبيعة النظام الرأس المالي الأميركي المتوحّش الذي يكافئ رأس المال على حساب العامل وبالتالي على حساب المواطن الأميركي.
أما السيطرة على المشهد المالي فحصل منذ مطلع السبعينات مع قطع علاقة الدولار بالذهب وبالتالي طباعة الدولار بدون مقابل. كما أن رفع أسعار برميل النفط تمّ بالتوافق بين الدول المنتجة والشركات النفطية التي جنّدت اٌلإدارة الأميركية لتسعير النفط بالدولار. لذلك أصبح الطلب على الدولار شبه مطلق وبالتالي مكّن مختلف الإدارات الأميركية من السيطرة على شرايين المال العالمية بسبب مركزية الدولار في منظومة المدفوعات الدولية. لذلك نجد معظم المسؤولين عن وزارة الخزينة الأميركية من كبار العاملين في المؤسسات المالية ما يؤكّد مساهمة القطاع المالي في شبكة المصالح التي ترسم وتوجّه السياسات المالية وبالتالي السياسات عامة.
الفريق المرتقب لإدارة بايدن/هاريس يمثّل ما عرضناه أعلاه. فوزير الخارجية المسمّى طوني بلينكن جمع بين العمل في إدارة أوباما ومراكز الأبحاث. كذلك الأمر بالنسبة لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان المستشار السابق لهيلاري كلنتون لسنوات عديدة. وما يُشاع عن تسمية ميشال فلورنوا لوزارة الدفاع يؤكّد العلاقة بين مراكز الأبحاث والشركات الكبرى للتصنيع العسكري واللوبيات والشركات «الاستشارية» والعمل في الإدارة عندما كانت وكيلة وزارة الدفاع (undersecretary). فمنذ خروجها من الإدارة في أواخر 2011أسست لمركز لشركة استشارية «وست أكزك» في الشؤون الأمنية والحكومية. وقبل دخولها في حكومة اوباما كانت قد أسست سنة 2007 مركزا للأبحاث تحت اسم المركز للأمن الأميركي الجديد بالشراكة مع جمهوريين من المحافظين الجدد كروبرت كاغان. ونشير أيضا أن زوجها سكوت غولد كان قائدا في البحرية الأميركية قبل أن يتولّى منصبا في وزارة المحاربين القدامى وقبل أن يصبح مسؤولا في شركة أي بي أم ما يؤكّد ما عرضناه أعلاه عن العلاقة بين مؤسسات المجمع العسكري الصناعي المعلوماتي الأمني والمالي.
كذلك الأمر لعدد من مستشاري الرئيس ونائب الرئيس منهم من أتى من شركة رايثيون التي تصنّع صواريخ الباتريوت. وسنرى المزيد من العاملين في شركات المجمع العسكري الصناعي والمالي والمعلوماتي يملئون المراكز الشاغرة في الإدارة الجديدة في الوزارات المتعلّقة بالسياسة الخارجية والدفاع والأمن. وهذا الأمر ليس محصورا بالإدارة الجديدة بل في كل الإدارات. لا ننسى أن وزير الدفاع ومستشاري الأمن القومي في بداية ولاية ترامب أتوا من القوّات المسلّحة كما أن وزير خارجيته أتى من القطاع النفطي ووزير خارجيته الحالي أتى من رحم الاستخبارات المركزية وهو خرّيج جامعة وست بوينت العسكرية.
أما على صعيد الملفّات الداخلية فهناك شبه إجماع عند جميع هذه القوى السياسية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية االهوى على عدم التكّلم في الاعلام الشركاتي ووسائل التواصل الاجتماعي عن «الطبقة» بل عن ملفّات تتعلّق بالهويات والعرقيات. حتى الجامعات نزعت البعد السياسي عن العلوم الاجتماعية. فالاقتصاد السياسي تحوّل إلى «اقتصاد» فقط (economics) والعلوم الاجتماعية إلى «علم الاجتماع» (sociology) بعيدا عن أي بعد سياسي واي حديث عن الطبقات الاجتماعية والفجوات الاقتصادية. والاحتجاجات الأخيرة ضد العنصرية كانت مموّلة من الشركات الكبرى طالما الاحتجاجات اقتصرت على التنديد بالعنصرية بعيدا عن أي مضاعفات طبقية. لذلك حظيت تلك الاحتجاجات بالتغطية المفرطة لها مع الإضاءة على «وحشية» قوى الشرطة والتغاضي عن التخريب في الأملاك الخاصة والعامة من قبل المحتجّين. وبما أن الرأي العام ممسوك من قبل ست شركات تملك بدورها ما يوازي 90 بالمائة من الاعلام نجد أن صناعة الرأي الواحد في الجامعة وفي الحياة اليومية صناعة ناجحة حتى الآن. لكن تغيّر كل شيء مع تنامي الاحتجاج الشعبي ضد النخب وهذا ما يمكن مقاربته في فقرة لاحقة.
هذه الشبكة من المصالح الممسكة للراي العام استطاعت أن تؤّثر في مسار كافة المؤسسات الدستورية. فالمؤسسة التشريعية أصبحت أداة تنفيذية لهذه المصالح حيث التشريعات تصدر في معظم الأحيان من رحم اللوبيات والشركات «الاستشارية» التي تصوغ تشريعات لصالح الشركات والقطاعات التي تموّلها. قال لنا أحد عمداء كلّيات الحقوق في الولايات المتحدة أن مفهوم القانون في الولايات المتحدة يختلف عن المفهوم في أوروبا وسائر أنحاء العالم. فالقانون في الولايات المتحدة هو ليحافظ على حقوق المصالح وليس على حقوق المواطن. نرى ذلك في التشريعات التي تتعلّق بالقيود الناظمة التي تمّ تجويفها أو الغائها في كثير من الأحيان كالقيود الضابطة لأعمال المصارف التي أصبحت خارج القيد المنظّم. فكانت أزمة الرهونات العقارية التي كادت تطيح بالأسواق المالية الأميركية. كما أن مؤسسات الرقابة المالية تمّ تخفيض ميزانياتها وعدد العاملين فيها بحجة أن الرقابة قد تعيق الأعمال والمبادرات. التحوّلات التي حصلت في البنية الراس المالية أدّت إلى إلغاء القيود الناظمة وخاصة للعالم المالي الافتراضي.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
(البناء)