مقالات مختارة

لبنان يتخلّى عن الملحقين العسكريين… باستثناء واشنطن!: أحمد الحاج علي

موسكو | في الحقبة الأخيرة من تاريخ العلاقات العسكرية الأمنية بين روسيا ولبنان التي باتت عرضة للتجاذبات والتوازنات الإقليمية والدولية، تنتهي بعد أيام مهمة الملحق العسكري اللبناني العميد مازن سليمان في موسكو، من دون تكليف ملحق جديد خلفاً له لهذه المهمة!

 

فبحجّة الضائقة المالية، قررت الحكومة اللبنانية إلغاء تمثيل لبنان العسكري في كل الدول، ما عدا الولايات المتحدة الأميركية، على أساس عدم التجديد للملحقين العسكريين اللبنانيين في 13 دولة. وكل من تنتهي مهمته منهم لا يتم إرسال بديل خلف له.

كان للبنان 14 ملحقاً عسكرياً في 14 عاصمة من دول العالم، أهمها واشنطن وموسكو، إضافة إلى لندن وباريس والكويت والأردن وتركيا وقبرص وغيرها، موزعين بحسب المحاصصة الطائفية المعهودة. واتُّفِقَ على أن يكون منصب الملحق العسكري اللبناني في موسكو من نصيب الطائفة الشيعية، فيما يتولى ضابط ماروني منصب الملحق العسكري في واشنطن.

مهمات الملحقين العسكريين اللبنانيين في كل الدول، باستثناء واشنطن، هي مهمات محدودة وثمارها أيضاً محدودة. وعلى سبيل المثال، كان يتم تجاهل وجود الملحق العسكري في موسكو، في كل جوانب التواصل والمحادثات اللبنانية مع الجانب الروسي حول التعاون التقني العسكري. لكن، في جميع الأحوال، وجود ملحق عسكري للبنان في دولة ما، يعكس مستوى الاهتمام السياسي بالعلاقات العسكرية والأمنية مع تلك الدولة.

لبنان، متذرعاً بالضائقة المالية، قرر إلغاء مهمات الملحقين العسكريين اللبنانيين في كل الدول، باستثناء واشنطن، على أن يكون هذا المنصب فيها مداورة بين الطوائف، القرار كان يُفترض أن ينفذ في أيار الماضي. وبعد تدخلات ورسائل دبلوماسية ومبادرات سياسية وعسكرية متعددة، تم تأجيل التنفيذ حتى الآن. الموضوع كان محط نقاش بين الحكومة اللبنانية وقيادة الجيش، وتم رفض العديد من المقترحات والمخارج؛ من بينها مقترح الإبقاء على ملحقين عسكريين للبنان في الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

إنْ كانت الحكومة قد قررت إلغاء مراكز الملحقين العسكريين في كل الدول بسبب الوضع الاقتصادي المالي، مع العلم بأن رواتب الملحقين العسكريين تأتي من موازنة الجيش، إلا أنه لا بد من الأخذ بالحسبان ما تعنيه هذه الخطوة في مسار العلاقات بين لبنان ودولة كروسيا، مع ما لها من دور وازن في الشرق الأوسط خصوصاً، مع الوجود العسكري الروسي الفاعل في سوريا والمهمة التي تؤديها القوات الروسية في مكافحة الإرهاب ومنع قوى الهيمنة من السيطرة على سياسات ومستقبل المنطقة بأسرها. كما لا بد من إدراك حرص روسيا على انتهاج سياسة داعمة للبنان والمحافطة على خطوط التواصل مع كل الأفرقاء والقوى السياسية فيه، حتى لو كانت مواقف البعض منهم تتعارض مع تمنيات موسكو، سواء في ما يتعلق بتطورات ومجريات الوضع في الداخل اللبناني أو على مستوى مواقفهم المتناقضة مع توجهات موسكو من أحداث وتوازنات المنطقة.

كان بإمكان علاقات التعاون العسكري والتقني بين الاتحاد الروسي ولبنان أن تشهد تطوراً إيجابياً منذ زيارة وزير الدفاع اللبناني السابق الياس المر لموسكو في الخامس عشر من كانون الأول 2008. حينذاك، قدمت موسكو عروضاً جدية، من دون قيود أو شروط، لتلبية كل احتياجات الجيش اللبناني لتعزيز قدراته القتالية والدفاعية، بما ينقله نقلة نوعية من حيث السلاح والعتاد، وذلك على شكل هبات نوعية وعقود ميسّرة بأسعار تشجيعية. ومن جملة ما طرحته موسكو عام 2008، هِبة من عشر طائرات ميغ 29 مطورة مع تدريب طيارين لبنانيين على استخدام هذه الطائرات، إضافة إلى دبابات ومدافع وذخائر، على أن تتولى بعثة عسكرية روسية دراسة باقي احتياجات الجيش اللبناني.

وتحت ضغوط أميركية أطلسية، تجاهل لبنان الهبة الروسية، قبل أن يطلب تحويل الهبة من طائرات ميغ مقاتلة إلى طوافات عسكرية من طراز مي 24، وهو الطلب الذي لم يُكمل لبنان متابعة إجراءات تنفيذه أيضاً.

وخلال زيارة الرئيس سعد الحريري لموسكو عام 2017، جرى البحث في إمكان الاستفادة من جزء من الهبة المالية السعودية الموعودة لشراء بعض احتياجات الجيش اللبناني من السلاح الروسي، من دون أن تنجح المساعي لإتمام تلك الصفقة بسبب الضغوط الأميركية الأطلسية ذاتها، قبل أن تحجب السعودية هبتها للبنان.

حصر العلاقات العسكرية الخارجية بواشنطن خطوة بالغة الخطورة في مسار تحديد هوية لبنان

واستمر الحريري، الذي تعتبره موسكو صديقاً لها، بالمماطلة منذ عام 2017، فتم تعطيل توقيع اتفاقية التعاون العسكري التقني والأمني بين لبنان وروسيا، من ضمن سياسة تجاهل وتعطيل إبرام اتفاقيات عسكرية للبنان مع عدد من الدول بحجة الضغوط الغربية، وعملياً تنفيذاً لرغبات واشنطن والرياض. ففي حزيران 2019، كان من المفترض أن يتم توقيع الاتفاقية التي تتضمن سلسلة بروتوكولات تعاون أمني وتقني عسكري، حيوية ومهمة للبنان كما لروسيا. كان من الممكن أن يستفيد لبنان، بالحد الأدنى، من توازن قوى مع الدول الأطلسية، بما يحول دون الهيمنة الأميركية التامة. لكن الحريري أبلغ الجانب الروسي، عبر مستشاره جورج شعبان، أن توقيع الاتفاقية مرتبط بإقرار الموازنة في لبنان، الأمر الذي اعترضت عليه وزارة الدفاع الروسية حينذاك، معتبرة أن الجهة الرسمية المخولة بمخاطبتها هي وزارة الدفاع اللبنانية!

تجاهل موسكو كعاصمة قرار صديقة للبنان وعدم تعيين ملحق عسكري موفد إليها وحصر علاقات لبنان العسكرية الخارجية بالولايات المتحدة الأميركية خطوة بالغة الخطورة في مسار تحديد هوية لبنان. وحجة الإبقاء على ملحق عسكري لبناني في واشنطن حصراً لمتابعة الهبات الأميركية المشروطة للجيش اللبناني تكرس الهيمنة الأميركية على مسار القرار الأمني اللبناني، بينما ترفض حكومات لبنان المتعاقبة بسبب التناقضات السياسية لمكوناتها، وقوى الهيمنة الخارجية عليها، كل مقترحات المساعدات والهبات غير المشروطة، سواء من روسيا أو إيران، والتي من الممكن أن تكون بديلاً واقعياً للمساهمة في حماية سيادة لبنان وأمنه واستقلاله.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى