الأسباب الحقيقية للانهيار
غالب قنديل
جاءت جائحة كورونا في موجة إسعاف سياسية ومعنوية لنظامنا السياسي الاقتصادي المتهتّك والتافه، الذي دمّر جميع فرص بناء المؤسسات الجديرة بدولة وطنية، وصادر سائر فرص التنمية الحقيقية لصالح النهج الريعي، وللنهب المنظم للريوع، التي كنزتها طبقة متخمة، ركزت ودائعها واستثماراتها خارج البلاد. وتلك هي الحقيقة المؤلمة، التي يجهد النظام اللبناني لإخفائها عن الرأي العام، ولوضعها خارج التداول.
أولا: إن الجريمة الأخطر التي ارتكبها النظام اللبناني، هي تدمير قطاعات الإنتاج. ويستغرق اليوم ناقدو هذا النموذج في خطب خاوية عن استرداد الأموال المنهوبة. والواقع أن دورة النهب بدّدت جميع الريوع المالية، وليس كما يتخيل البعض، أو يصور للناس، أن كنوزا جُمّعت في خزائن ويمكن استردادها.
إنه النموذج اللبناني الفريد. لقد طارت الثروة المنهوبة، وأنفقها المترفون الذين استحوذوا عليها مع حواشيهم، التي تنعّمت بقسط من الرخاء والبحبوحة، وبدّدت حصة من الثروة المكنوزة. وساعة الحقيقة التي حانت اليوم تؤكد ألا ثروات في الخزائن، ولا أرصدة يمكن وضع اليد عليها، والمقترح الوحيد الذي تحمله الشرائح الرأسمالية اللبنانية، هي دعوة الفقراء والمنتجين اللبنانيين الى الكدّ والكدح من جديد لإعادة تكوين ودائع وأرصدة الأثرياء التي أكلها الوحش الريعي.
ثانيا: إن الواقع اللبناني القائم هو كارثة وطنية، وتفليسة شاملة لا يفيد معها الغرق في تبادل الاتهامات. فالصامت والمتورّط في ركب الكارثة صنوان. وكان الجميع في سكرة طويلة دامت عقودا، وأفاقوا منها فجأة على شفا الكارثة. هل سبق أن تقدّم أيٌّ من الأطراف السياسية الرئيسية برؤية نقدية، تحذّر من خطر التركيبة السائدة؟. الجميع يعرف، وينبغي أن يعترف بذلك، أن أصواتا معزولة كانت ناقدة للنموذج الريعي التابع، وتطرح فكرة إعادة البناء الوطني اقتصاديا وسياسيا، وكنا من هذا الفريق طيلة ربع القرن الماضي، ولم يكن أحدٌ ليسمع أو يسأل أو يناقش في هذا الخيار. بل إن مصير أمثالنا كان العزل والتهميش، بكل صراحة.
إنها حقيقة تفقأ العيون. والوقائع أقوى من أن ينكرها أيٌّ كان. وعندما عارضنا النموذج الريعي الحريري لم نكن نمارس كيدا سياسيا. وكنا نعلم أن هذا النموذج آيل للسقوط، وسيورث خلفه خرابا كبيرا ساعة انهياره، لكن أحدا لم يسمع. وقد أسكرت الجمعَ المهيمن حرارةُ المنهوبات مما استولى عليه من ثروة لبنان المكنوزة والمتاحة. واليوم سيضطر اللبنانيون لتحمّل أعباء الخروج من الكارثة بأرصدتهم وممتلكاتهم وتلك الثروات والممتلكات العامة، التي يتلهّف اللصوص أنفسهم لوضع اليد عليها تحت عنوان الإنقاذ.
ثالثا: المأزق اللبناني هو مأزق النموذج الريعي غير المنتج، الذي دمّر جميع فرص النمو الحقيقي، ومكّن الغرب من تحويل البلد الى مستعمرة، خرقت فيها المقاومة جدار الهيمنة، فكانت حركة تحرّرية استقلالية، لكن الغرب وأهل النظام حاصروها، وسعوا الى خنقها، فشبّت على الطوق، وحرّرت الأرض، وفرضت معادلة جديدة للسيادة والاستقلال، لكنها لم تطرح، على غرار حركات التحرير المعروفة، برنامجا لإعادة بناء الوطن.
ربّ قائل: إن مهمة بهذا الحجم أكبر واوسع من طاقة حزب الله والمقاومة. وهذا منطق له ما يبرّره اجتماعيا وسياسيا بالنظر الى التركيبة السياسية الطائفية في البلاد، لكن السؤال يجب أن يُطرح وبقسوة على جميع الوطنيين القاعدين، الذين تكاسلوا واستعفوا من أي مسؤولية، وبالكاد كان دورهم في المقاومة، هو إصدار بيانات التأييد لعملياتها ولنضالها الذي أثمر تحريرا ناجزا وردعا للعدو. بينما لم تحمل المقاومة، مجسّدة بحزب الله، برنامجا وطنيا لإعادة بناء البلد بعد التحرير. ورغم أنها قدّمت نموذجا ناجحا في نسج التحالفات، والتصدّي للمهام الوطنية المركّبة والمتعددة، لكن الأكيد أن إعادة البناء بعد الحروب، وبعد التحرير، تفوق طاقة حزب بمفرده. وفي هذا المجال ينبغي الاعتراف بأن إنجازات حزب الله كانت تمثّل قوة دفع كبيرة بانتصاره على الاحتلال وبدحره للإرهاب التكفيري، ويمكن البناء عليها كقاعدة لمشروع وطني متكامل، ينهض بالبلد ويحول دون تآكله وانهياره، لو تنبّه الجميع في العمل الوطني الى أن الاستحقاق الداهم بعد دحر الاحتلال الصهيوني والإرهاب التكفيري، هو إعادة البناء الوطني على أسس جديدة.
ومن غير أيّ شك لو تبع التحرير ودحر التكفير انبثاق جبهة وطنية متّحدة لإعادة البناء الوطني، لأمكن تجنيب اللبنانيين كأس الانهيار والخوف من الجوع والفاقة الزاحفين مع نضوب الثروة وفراغ الخزائن الوطنية.