أميركا التي نعرفها لم تعُد موجودة…فاستعدّوا!: ناصر قنديل
– بعيداً عن محاولات التأقلم التي ينشغل بها المحللون والمتابعون مع الوقائع التي حملتها الانتخابات الرئاسية الأميركية، والبحث عن أسباب لتفسير خطأ التوقعات أو ضعفها وعجزها عن ملاقاة الأرقام والمواقف، يفتح المشهد الانتخابي الأميركي الباب لبحث من نوع مختلف لا يزال الكثير من المحللين والمتابعين يرفض تصديقها، والتعاطي معها بالجدية اللازمة، وهي بحجم يطال البحث عن المستقبل الأميركي، كنظام سياسي واقتصادي، كمجتمع موحّد، كنظام ديمقراطي قادر على امتلاك آليات لمواجهة الأزمات، ومن خلال ذلك البحث بأسئلة أكثر عمقاً من عيار مستقبل النظام الفدراليّ وخطر التفكك، ومستقبل التداول السلمي للسلطة والتعايش السلمي بين المكوّنات المختلفة عرقياً أو طبقياً، وخطر الفوضى الأمنية وصولاً لفرضيات الحرب الأهلية او سقوط الانتظام العام كحد أدنى.
– في مقالة قبل أسبوع بعنوان “السباق على المنخار” أوردنا توقعاتنا بالأرقام لما ستشهده الانتخابات من استعصاء، رغم الموجة التي كانت تسود التحليلات وتتحدّث عن فوز سلس ومحتم لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن، وما تحمله الأرقام اليوم تأكيد لما توقعناه بالتفاصيل، وفيما يتم التركيز على مأزق عنوانه شخصيّة ترامب، وتهوّره وتفلّته من الضوابط، تظهر الوقائع التي تتدفق مع الوقائع الانتخابية أن المأزق بوجهين، وجه جمهوري ووجه ديمقراطي، ليظهر مأزق المجتمع والنظام ومن خلالهما الكيان، فالنموذج الأميركي يبلغ سقف القدرة على احتواء الأزمات وتقديم الأفضل، وليس أمراً عرضياً أن لا تستطيع توحيد الجمهوريين الذين يشكلون عصب العرق الأبيض والطبقة الأغنى التي تمثل الكريما في جماعة الأعمال بتنوّع مجالاتهم، وفوق هؤلاء شخصيات ورموز اليمين الديني وفلاسفته وكتابه ومثقفيه وخطبائه، إلا شخصية رجل الأعمال الفوضويّ والنرجسيّ دونالد ترامب الآتي من خارج الحزب، حزب يرتضي قيادة لقيطة لشخصية تفتقد كل مواصفات رجل الدولة، وتشبه رجالات المافيا والعصابات، بخصال تضعها خارج السياق الطبيعيّ للممارسة السياسية التقليدية والقيمية، لكن المفارقة أن هذه الخصال الهابطة لشخصية ترامب هي مصدر جاذبيتها وقدرتها على تشكيل القاطرة اللازمة لتوحيد كل التباينات التي أصابت البنية التقليدية للجمهوريين لدرجة تقديمه كبطل وطنيّ، كما أنه ليس بالأمر العرضي أن لا يستطيع الحزب الديمقراطي أن ينهض بالمعركة الرئاسية كحزب نخبويّ للمثقفين والمحامين والكتاب والنواب، وحزب للطبقة الوسطى، وحاضنة للمهمّشين من النساء والشباب وأصحاب البشرة الملوّنة، كحزب للنهوض بمفهوم الدولة المدنية، إلا تحت شعار منع وصول ترامب للرئاسة ولبس الكمامة، وإلا وراء شخصية باهتة مشكوك بقدراتها العقلية، وفاقدة كل كاريزما وجاذبية، وتنخر حضورها الشيخوخة والهرم حدّ الخرف، فهذا الذي يجري على ضفتي الحزبين ليس عابراً ولا عرضياً، بقدر ما هو تعبير عن المأزق، وبلوغ النموذج للسقف، والعجز عن توليد الجديد، وانسداد طريق التطور من داخل النظام سلمياً، كما يفترض أنها المهمة التي تناط بالديمقراطية، التي تتباهى بها أميركا وتقدّم ذاتها كنموذج لهذه الديمقراطية القادرة على ضمان التداول السلمي للسلطة والتعايش السلمي بين المكوّنات.
– في مقال قبل يومين تحدّثنا عن سيناريوات الفوضى والانقسام العمودي وتراجع الاستقرار والتماسك والنزاع القضائي المفتوح، تحت عنوان سقوط الإمبراطورية الأميركية، وكانت الإشارة واضحة للمعادلة التي تحكم المشهد الأميركي الحالي، وهي معادلة فقدان أميركا لمصادر الوفرة والقوة التي كانت تشكل الأساس لسيادة مؤسسات الديمقراطية الأميركية، ولسلاسة ممارسة الحكم، والأمر اليوم ليس في خيار الفوضى والحرب الأهلية كمعبر حتمي من المأزق الرئاسي، فقد تتخطى النخبة القياديّة في الحزبين مخاطر الانفلات والخروج عن السيطرة، ولكنها لن تنجح بإنتاج مشروع استقرار، ولن تنجح بمعالجة الانقسامات العمودية التي انطلقت من عقالها لنقص الموارد وتراجع هيبة القوة، ولا يعيدها للسيطرة الا مزيد من الموارد والمهابة. وهذا لم يعد بيد النخبة التي تتخبط منذ عام 2000 لصناعة مشروع هيمنة على الموارد العالمية وإنتاج مهابة لسياسة الاستتباع، والمشروع يصطدم بعقبات تزداد قوة وصلابة واتساعاً، والمثلث الروسي الصيني الإيراني يزداد قوة وتماسكاً وحضوراً، وبالتوازي الحلف الذي قادت عبره أميركا مشروعها يزداد تفككاً، ولم يتبق منه إلا شركاء التطبيع الخليجي الإسرائيلي، بعد المسافات والهوامش التي رسمتها أوروبا وتركيا كل من موقعه عن الانضباط الكلي بالسياسات الأميركية.
– ما تشهده أميركا ليس استعصاء انتخابياً مجرداً عن عمق مأزق الكيان والهوية والمجتمع والدولة، بل هو رأس جبل الجليد لهذا المأزق، فثمة إمبراطورية هرمت وهي تترنّح وتتفكك، وسقوط الأجسام الثقيلة، يشبه سقوط التايتانيك، او دخول الفيل الى معرض للخزف. فالكثير من الحطام والصخب آتٍ في الطريق، والذين ربطوا مصيرهم بالقاطرة الأميركية، وساء برهان عودة ترامب أو مجيء بايدن عليهم أن يعيدوا حساباتهم ويستعدوا لزمن عنوانه الأكبر، أميركا مقفلة حتى إشعار آخر بداعي الانشغال بالذات والصيانة والترميم. والخروج من المأزق الرئاسي لن يعني على الإطلاق خروجاً من المأزق الأصلي للكيان والدولة والمجتمع، وأول الذين عليهم مواجهة ساعة الحقيقة هم أطراف الثلاثي الخليجي التركي الإسرائيلي.