حكومة من الماضي القريب: بشارة مرهج*
على مرأى من العالم كله يُذبح الشعب اللبناني، اليوم، من الوريد الى الوريد. يموت على أبواب المستشفيات. يغرق في تلال النفايات. يُسرق في ردهات المصارف. يُنهب في الأسواق. يُهان على أبواب الإدارات. يُهجّر من بيوته على مشارف الشتاء. يُمنع من الأدوية والمعالجات. يجوع بسبب الغلاء. تتآكل رواتبه وأجوره ومدّخراته دون من يسأل أو يهتم.
يتعرّض لكلّ ذلك وأكثر، سواء في بيروت المرفأ أو الضواحي أو المدن أو الأطراف، لأنّ السلطة الغاشمة، بعد أن باعت الناس على مذبح الحصص والنفوذ، «تعجز» اليوم عن الاستدانة لملء الخزينة الفارغة، و«تعجز» عن استرداد الأموال الضخمة التي تمّ إخراجها من لبنان تواطؤاً وتهريباً.
إنها تقف صاغرة أمام الحاكم الأوحد الذي يتصرف بالسلطة النقدية، واستطراداً السلطة المالية، كما يتصرف مع الذين أنعم عليهم بالقروض الميسّرة والعلاوات الفاحشة.
والأبشع من هذا الضعف المخزي تجاه الحاكم فإنّ السلطة الغاشمة التي تعهّدت أمام العالم كله بإجراء التحقيق الجنائي المحاسبي تُجاهر اليوم بعجزها عن إجراء هذا التحقيق، لا بل تقوم بمحاصرته، وحماية الحاكم الذي يريد هذا التحقيق سطحياً شكلياً فارغاً من مضمونه، كما تعوّد مع شركتي التدقيق الدوليتين اللتين تقومان سنوياً بمطابقة الأرقام التي يقدّمها الحاكم ودوائره مع قواعد العمل المصرفي التقليدي دون النفاذ الى جوهر الأمور وعمقها، كما يتطلب التحقيق المحاسبي الجنائي.
وفي هذا المجال كان الرأي العام المتعطش لمعرفة حقيقة الأرقام، التي طال النقاش والجدل حولها، يتوقع تجاوباً من الحاكم تجاه التحقيق المحاسبي الجنائي لتبرئة ذمته باعتباره واثقاً من نفسه ولا شيء لديه يخفيه، ولكن الحاكم اختار بدلاً من ذلك تحدي رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، ورفض تقديم المعلومات للشركة الدولية التي تقوم بالتحقيق الجنائي، وكأنه يعطل التحقيق خشية انكشاف الخسائر الحقيقية التي تكبّدها المصرف والبالغة حوالي 45 مليار دولار – نعم 45 مليار دولار– بحسب مجلة فوربس والعديد من الخبراء اللبنانيين والدوليين.
إنّ تعطيل التحقيق، استناداً الى «الحلف» الذي يرتكز اليه الحاكم، يُهمّش في ما يُهمّش موضوع الحكومة العتيدة ويجعلها عاجزة عن تلبية رغبات اللبنانيين – مقيمين ومغتربين – في إجراء الإصلاحات المطلوبة كشرط لا بدّ منه لاجتذاب الاستثمارات الخاصة والحصول على المساعدات والقروض العربية والدولية. ومعنى ذلك كله انّ الطبقة الحاكمة، برفضها التحقيق الجنائي، وبتردّدها عن سنّ التشريع اللازم لانطلاقه، قرّرت الانسحاب من معركة الإصلاح والإنماء وصمّمت، غير عابئة بالمبادرة الفرنسية أو المناشدات العربية، أو الاستغاثات اللبنانية… صمّمت على الارتداد على هذا التحقيق المأمول والانحياز نهائياً الى مجموعات النهب والسلب والفساد التي تعبث بأموال الناس وتعيث في الأرض فساداً.
لا جديد تحت الشمس. والانتفاضة المحفورة في وجدان كلّ لبنانية ولبناني تتحفز للانطلاق من جديد.
وإنّ غداً لناظره قريب…
*نائب ووزير سابق
(البناء)