كورونا الحكومة وتفلّت الجماهير
غالب قنديل
يُظهر تقصّي المسار الذي اتخذه وباء كورونا في لبنان مجموعة من الأسباب التي تقف خلف حالة التفشي التي بلغناها، ونقاط الضعف التي تسبّبت بذلك، ويقتضي الأمر درجة عالية من المصارحة مع الرأي العام والمسؤولين من موقع المسؤولية الوطنية.
أولا: لا شك أن الأطقم الإدارية والطبية في وزارة الصحة اللبنانية والجسم الطبي والاستشفائي العام والخاص بذلوا جميعا، ويبذلون، جهودا مضنية لحماية شعبهم ولاحتواء الجائحة الخطيرة، وصارعوا ببطولة أحيانا شحّ الإمكانات وانعدام الأموال وصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، التي يئن منها المواطن اللبناني المهدّد بالجائحة الخطيرة.
لقد أفلح الجسم الطبي اللبناني وتجلّى، بما فيه كادر وزارة الصحة في تجسيم الخطر، وفي تحذير الناس وشرح التدابير الوقائية المطلوبة، ولكن ينبغي الاعتراف بأن التفلّت من التدابير والإجراءات لا يزال الى اليوم نزعة شعبية طاغية، تنطوي على استخفاف خطير بالمعطيات العلمية، وتعكس نسبة عالية من الجهل والأميّة وضعفا كبيرا في الحملات الإعلامية، وعجزا لجميع أدوات صياغة الرأي العام، سواء على مستوى الإعلام اللبناني أو على صعيد قيادات الحياة العامة السياسية والنقابية على اختلافها، في ظلّ تفاوت حميّتها واستنفارها لتعبئة الناس ضد الوباء ومؤازرة جهود وزارة الصحة والطاقم الطبي.
ثانيا: الثغرات المشار اليها باتت أمرا واقعا يهدّد بالمزيد من الأضرار والخسائر، ولا شكّ أن تقصيرا رسميا كبيرا يكمن في خلفية هذه المعضلة، أول ملامحه هو غياب التناغم ووحدة الأداء بين الوزارات والمؤسسات المختلفة. وفي حين يستحق التنويه أداء وزارة الصحة وخبرائها والجسم الطبي عموما، وتحذيرات وزير الصحة بشكل خاص، فإن الوزارات الأخرى المعنية ليست على السويّة نفسها، وقد ساد أداءها ارتباكٌ فاضح وكانت متخلّفة عن ملاقاة الجائحة وتداعياتها، وهذا ما انعكس على المعركة التي يخوضها لبنان لمنع ازدياد الإصابات بالفيروس، وفاقم النتائج وارتفاع منسوب المخاطر، التي بلغت درجة التفشّي المجتمعي.
هذا الأمر يتطلب، وفي هذه اللحظة بالذات، مجابهة مختلفة عن كلّ ما سبق، ومراجعة للإجراءات والتدابير المتخذة على مستوى الحكومة والمؤسسات العامة، ومعالجة شجاعة للمعضلات، تتيح السيطرة على الموقف والحدّ من التفشي وسائر التفاعلات السلبية للجائحة ولآثارها.
ثالثا: يقتضي الإنصاف أن ننوّه بأداء وزارة الصحة وبعض المؤسسات العامة المعنية، لجهة شرح المخاطر وتعبئة الرأي العام وتوعيته، ولكن ذلك لم يكن كافيا في ظل الثغرات، التي كان أخطرها غياب الخطة الحكومية المتكاملة، التي تحقّق التناغم الإعلامي والإداري، والتي تدقّق في التدابير والإجراءات، وتفرض تطبيقها بالسبل المناسبة دون مراعاة أيٍّ كان أو الخضوع لمزاجية المواطن اللبناني الواقع أحيانا أسيرا لجهله وقلة معلوماته العلمية والطبية، وهنا نسجّل تقصيرا كبيرا في الخطة الإعلامية المواكبة، ومدى كفاية بنودها لخلق توتّر عام حول الإجراءات والتدابير المتوجّبة.
إن الخطة الوطنية المتاحة، والممكن تنفيذها، ليست معجزة، لكنها تستدعي عملا منهجيا بعيدا عن الارتجال، وعن المياومة، ما يتطلّب إمكانات طبية علاجية ووقائية، ودراسة دائمة للواقع الصحي والاستشفائي وزجّا بكل الإمكانات المتاحة في معركة حماية اللبنانيين من وباء يهدّد حياة ملايين البشر في العالم، ويُفترض أن يؤخذ مأخذ الجدّ بدون استهتار أو إهمال أو استخفاف، كما بيّنت التجربة اللبنانية بصورة مباشرة. وأول ما يجب التصدّي له هو الأفكار العابثة والمستهترة، التي يجترّها بعض اللبنانيين في التعامل مع الوباء، الذي تثبت الأيام أكثر فأكثر أنه خطر جدّي يحصد الأرواح في العالم كلّه، وهو مرشّح للاستمرار والتجدّد بموجات متصاعدة أكثر خطورة طالما لم يتوصّل العلماء الى العلاجات المجرّبة، ولم يختبروها لمدة كافية لاعتمادها، فكلّ ما هو متداول علميا في هذا المجال ما يزال قيد الاختبار، وعلى البشرية أن تنتظر بلوغ درجة اليقين العلمي، كما حصل مع أوبئة سابقة، وكلّ كلام غير ذلك هو ثرثرة سخيفة وغير مسؤولة.
رابعا: أن الظروف الصعبة للبلد تقتضي إعطاء أولوية لمجابهة الوباء رغم ضيق الحال، والتكيّف في تنفيذ التدابير والإجراءات بما يناسب الظروف والإمكانات المتاحة. وليس من المستحيل علميا إيجاد طريقة للموالفة بين استمرار النشاط الاقتصادي ومنع التفشّي الوبائي، لكن ذلك يتطلّب التزام الأفراد من جميع الفئات والمناطق والمهن، وفي شتّى القطاعات بتدابير الوقاية، وبالاجراءات التي تحدّدها وزارة الصحة، وكل ما عدا ذلك تخريف وتفاهة وتخريبٌ يتسبّب بأضرار قاتلة.
إن دور الإعلام في خوض هذه المعركة التي هي معركة للسلامة الوطنية تخصّ كل اللبنانيين هو دور أساسي، ولا سيما في كشف الثغرات وترشيد الإجراءات واستنفار الحسّ العام المسؤول لدى جميع اللبنانيين، فهذه معركة وجود تخصّنا بدون استثناء، وينبغي أن نخوضها بمسؤولية عالية، وهي مقاومة وطنية لا تفيد معها حالة ترهّل المؤسسات والوزارات وتراخي الإجراءات والتدابير، وخفّة بعض المسؤولين أو انشغالهم في شؤون شتّى خارج هذه القضية المركزية.
المعركة الصحية والطبية يجب أن تُعامل كمعركة وطنية وجودية، على اللبنانيين خوضها متكاتفين بروح وطنية عالية وبيقظة تامة، وهذا هو السبيل الوحيد لحماية بلدنا وشعبنا، فالأمر لا يحتمل أيّ تهاون أو تراخٍ، ومن يتصرّف باستهتار يفتح ثغرة لمزيد من تفشي الفيروس ولمزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية.