مقالات مختارة

خالد علوان وملحمة بيروت: معن بشور

في الحرب العربية – الإسرائيلية التي شهدها لبنان عام 1982 والتي استمرت أكثر من 88 يوماً، والتي كانت درّة تاجها ملحمة بيروت الخالدة، حصاراً وقتالاً ومقاومة بطولية أجبرت العدو، ولأول مرة في تاريخ الصراع معه، أن ينسحب بعد أيام دون قيد او شرط بل مذعوراً ينادي بمكبرات الصوت «يا أهل بيروت لا تطلقوا النار علينا… اننا منسحبون».

 

يردّد اللبنانيون عموماً هذه الاستغاثة الإسرائيلية، كما يردّدون مانشيت جريدة “السفير” في تلك الحرب “ بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”، تماماً كما يردّد أبطال المقاومة في بيروت مع أول شهيدين في ملحمة بيروت شهيدي الطريق الجديدة (محمد الصيداني وعصام اليسير): “ليس من العار ان تدخل دبابات العدو مدينتنا، لكن العار كلّ العار أن لا تجد من يطلق الرصاص عليها” فكانت الرصاصات الأولى التي لحقتها رصاصات في كلّ أحياء بيروت وأزقتها وشوارعها حتى أكتشف العدو انّ خروج قوات المقاومة الفلسطينية من العاصمة، كما القوات العربية السورية ومئات المتطوّعين العرب والأمميّين، لم يُخرج روح المقاومة من عاصمة كانت تهبّ انتصاراً لكلّ مقاومة في وطننا العربي، بل على مستوى العالم

بين مقاومي بيروت في تلك اللحظات كان العروبي والناصري والقومي والشيوعي والاشتراكي والإسلامي، الذين وحّدتهم العمليات البطولية في شوارع العاصمة، والذين توّجوا عملياتهم بما عرف بـ “عملية الويمبي” حيث أقدم الشهيد السوري القومي الاجتماعي ابن بيروت خالد علوان ورفيقاه الراحلين عارف البدوي وشربل عبّود على إطلاق النار على جنود صهاينة ظنّوا انّ “الأمر قد أستتبّ لهم” فجلسوا في مقهى “الويمبي” في الحمرا لتفاجئهم رصاصات المقاومين التي أردت أحد ضباطهم البارزين قتيلاً

لم يكن خالد علوان ورفيقاه وحدهم يجسّدون في عملياتهم البطولية روح العاصمة المتجدّدة عطاء وصفاء وتضحية وإبداعاً، بل كان هناك أيضاً المرابط إبراهيم منيمنة، والشيوعيون جورج قصابلي، ومحمد مغنية وقاسم الحجيري ومهدي مكاوي، والناصريون محمود وهبة، ومحمد أحمد إسماعيل ومنير سعدو وجهاد عادل الخطيب، وأبو علي محمد عرابي، ومناضلو حزب البعث، وحزب الاتحاد، والاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري، واتحاد قوى الشعب العامل، وحركة أنصار الثورة، بالإضافة إلى مقاتلي جيش لبنان العريي وحركة أمل والهيئات الإسلامية، بل كانوا جميعاً امتداداً لإرث بيروت المقاوم منذ عام 1948 على يد أمثال الدكتور بشارة الدهان، ووفيق الطيبي وعماد الصلح و”جمعية كلّ مواطن غفير”، ومع الشهيد خليل عز الدين الجمل أول شهيد لبناني في صفوف الثورة الفلسطينية في أغوار الأردن عام 1968، ومع الشهيد أياد نور الدين المدوّر أول شهيد جبهة المقاومة الشعبية لمقاومة الاحتلال بعد غزو 1978، ومع الشهيد الناصري صالح سعود أول شهداء الحرب 1982، ومع المفقود بلال الصمدي الذي حمل السلاح متوجهاً الى الجنوب مع رفاقه الخمسة في تجمع اللجان والروابط الشعبية ليواجه العدو الزاحف من الجنوب باتجاه العاصمة بل مع وقفة المفتي الشهيد حسن خالد في صلاة العيد في الملعب البلدي، وخطب الشيخ الراحل عبد الحفيظ قاسم التي كانت تدوّي بها إذاعة “صوت لبنان العربي”.

وحين نتحدث عن الشهيد خالد علوان نتحدث عن كلّ شهداء المقاومة بكلّ تياراتها واتجاهاتها، وصولاً الى المقاومة الإسلامية التي تحوّلت اليوم الى رقم صعب في معادلة الصراع في المنطقة، والتي بات وجودها ونموها مصدر قلق رئيسي لعدو نجح في تصوير نفسه بأنه “الجيش الذي لا يُقهر” وإذ به في لبنان، ثم في غزة، يصبح الجيش الذي لا ينتصر.

إنّ الإضاءة كلّ عام على هذه الأسماء الساطعة في سماء الوطن والأمة، هي إضاءة على دور بيروت التاريخي في حمل راية النضال الوطني والقومي والإيماني على مدى العقود، بيروت التي علمتنا جغرافيا الوطن العربي يوم انتصرت لجبال الأوراس في الجزائر، ولجبال الأطلس في المغرب، ولجبال ردفان في اليمن، ولجبال ظفار في عُمان. وللجبل الأخضر في ليبيا، ولمعركة بنزرت في تونس ولثورات العراق منذ ثورة العشرين وحتى مقاومته المتواصلة بعد الاحتلال الأميركي، ولثورات سورية ضدّ الاستعمار والانتداب والتي كانت بيروت وكلّ لبنان شركاء فيها، وبالتأكيد لثورة جمال عبد الناصر في مصر، ولثورة فلسطين المستمرة رغم كلّ مشاريع التطبيع والتصفية

في تلك الملحمة الخالدة، تلاحمت الرايات في الدفاع عن بيروت واجتمعت قوى الأمة كلها لا سيّما اللبنانية والفلسطينية والسورية، وفيها كان الانتصار الأول على العدو الذي تلته كلّ الانتصارات، بل بسببها كان كلّ هذا الحقد الصهيوني على بيروت خصوصاً، ولبنان عموماً، وهو حقد ما زلنا نعاني أثاره حتى اليوم في حروب وفتن وانفجارات وتجويع ومحاولات تركيع وتطويع.

إنّ استحضار هذه الذكريات “الخالدة”، وهذه الأسماء العطرة اليوم، هو استحضار لدور مدينة يحاولون تغييبها وتشويه صورتها وطمس دورها، وذلك في إطار الانتقام من مدينة كان شارعها الرئة التي تتنفس من خلاله كل قضايا الأمة العادلة، وثانياً في إطار مؤامرة شطب عاصمة كانت قاعدة لوحدة الوطن الذي تتعاظم هذه الأيام مشاريع تصفية مقاومته ومخططات تقسيمه إلى كانتونات وفيدراليات طوائف ومذاهب.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى