مقالات مختارة

واشنطن لبيروت: لا تنتظرونا!: جان عزيز

 

أهم ما حمله نائب وزير الخارجية الأميركية في زيارته خلال اليومين الماضيين إلى بيروت، نصيحة هي أقرب إلى المصارحة: إسمعوا منا، لا تنتظرونا ولا تراهنوا على أي من تطوراتنا.

علماً أن الرجل ليس طارئاً على واشنطن ولا على مفهومها لمصالحها ولا على سياساتها في العالم. من المخضرمين هو. أمضى أكثر من عشرين عاماً في الإدارة الأميركية. بينها فترات طويلة في مناصب رفيعة، من مساعد خاص للرئيس في زمن بيل كلينتون، إلى مستشار اساسي في مجلس الأمن القومي.

ثم إن الرجل يعرف الغرب معرفة جيدة. فهو تلميذ فرنسا ومدارس باريس، قبل أن يحمل شهاداته من أعرق جامعات الضفة الغربية من الأطلسي. يعرف أنطوني بلينكن بلاده بشكل كامل ويعرف بلادنا. ويعرف نمطية العلاقة بين الطرفين. وبناء عليه عين أخيراً نائباً لوزير خارجية واشنطن. لذلك في الشكل ثمة فارق بين الرسميات والضمنيات. في الشكل الرسمي أن الرجل آت إلينا ضمن جولة هي الأولى له بعد تسلمه منصبه منتصف كانون الثاني الماضي. وهو بذلك يقوم بزيارة تعارف إلى لاعبي الشرق الأوسط وتعرف إلى قضاياها وأزماتها. أما في الواقع الفعلي أن الرجل ليس غريباً عن المنطقة، ولا جديد فيها لا يعرفه. في الشكل أيضاً جاء نائب كيري إلينا حاملاً علناً خطاباً رسمياً مستظهراً عن أدبيات أميركية معروفة ومحفوظة. فكرر للتسجيلات الرسمية مواقف إدارته كالتالي: نحن ندعم وحدة لبنان وسيادته وسلامة أراضيه. نحن ندعم الجيش اللبناني كأداة للحفاظ على الاستقرار في لبنان. نحن قلقون من تداعيات الحرب السورية على لبنان. نحن مهتمون جدياً بمساعدة لبنان على معالجة أزمة النازحين السوريين على أراضيه. لذلك نحن ساهمنا مالياً ومادياً في تحمل هذه الأعباء وقدمنا لكم مساعدات هذه جردتها … إلى آخر المعزوفة الأميركية الرسمية.

لكن خلف الرسميات والشكليات، كانت للرجل نقاشات طويلة مع مضيفيه، أرادها كلها تحت عنوان الاستماع والاستئناس بآراء من يلتقيهم، حول أفق ما يحصل في المنطقة. سأل عن قراءتنا في بيروت للاتفاق النووي. استمع إلى مختلف الآراء ووجهات النظر. قبل أن يختم هذا البند بنصيحة أولى: لا تحسبوا أن ما حصل في 2 نيسان في لوزان هو تتويج علاقة. إنه مجرد بداية لمسار. قد يكون طويلاً. وقد يعرف محطات وقد يشهد مطبات، وقد تعترضه عرقلات وتعقيدات. المسألة لا ترتبط بموعد الأشهر الثلاثة المقبلة وحسب. بل برزنامة زمنية قد تكون أكثر تعقيداً.

عن المنطقة كان الرجل مهتماً ببند أساسي: الإرهاب. يسأل عنه أسئلة العارف. منابعه الفكرية والثقافية. بيئاته الحاضنة والبيئات الطاردة. من يشجعه ومن يموله. ومن يواجهه ومن يحاربه. يعرف كل هذه. يربطها إيحاء بالاتفاق مع إيران. كأن بين الأمرين علاقة سببية مباشرة. كأن خلف الاتفاق النووي تحالفاً جديداً غير معلن بين معسكرين مكتومين: معسكر الإرهاب التكفيري، من محرض ومنفذ ومستفيد. مقابل معسكر الضحايا، من محارب ومتضرر ومستقرئ لتطور الأمور في المنطقة والعالم. أكثر من ذلك، يبدو الرجل خبيراً في المسألة، حتى حدود الصمت المعبر عن موقع اسرائيل من هذه المعادلة. موقع يمثل أكبر مفارقة وأكبر دوامة لواشنطن نفسها. فالأخيرة أقدمت على الحوار الإيراني، بخلفية واضحة صريحة، وإن غير معلنة. مفادها أن طهران هي العامود الفقري للمعسكر الذي يحارب داعش. من حضرموت إلى القلمون. مروراً بتكريت والحسكة والرقة. فيما اسرائيل حليفة أميركا الأولى، تتفرج على الإرهاب نفسه على حدودها السورية. لا بل تمارس معه «فليرت» سياسياً أمنياً وعسكرياً، قد لا تعرف آفاقه وتطوراته. والأسوأ، أنها ترفض التسوية مع إيران حليفة أميركا في حربها على الإرهاب، وتدفع إدارة البيت الأبيض إلى سلسلة لا تنتهي من التطمينات، تحت وطأة الابتزازات. يبدو بلينكن خبيراً في تفاصيل تلك الإشكالية المعقدة. حتى إذا سئل عن موقع اسرائيل منها، لزم الصمت، فيما عيناه المنبهرتان تكشف أجوبته المحظورة.

وبين إيران واسرائيل والإرهاب، ثمة حيز في أسئلة الرجل عن الأقليات في المنطقة. عن مصيرها، وعن دورها. عن سبل الحفاظ على وجودها، وعن تداعيات مأساتها على الغرب، بدءاً بأوروبا التي خبرها بلينكن مسؤولاً عن العلاقات معها ضمن مجلس الأمن القومي، وصولاً إلى أميركا نفسها التي بلغت منعطفها الديمغرافي التاريخي، بنزول عنصر الرجل الأبيض عن مرتبة الأكثرية فيها، في مقابل خليط الجماعات الإتنية المختلفة الأخرى.

ستمتد جولة المسؤول الأميركي إلى عواصم عدة في المنطقة. عواصم لها أزماتها ومشاكلها. ولها انتظاراتها من واشنطن وسياساتها الخارجية. تبدو أجندة الرجل حافلة، في المحطات والمواضيع. لذلك حين يسأل، أو يُسأل عن الرئاسة اللبنانية، يسارع إلى إسداء نصيحته: لا تنتظرونا، ولا تنتظروأ أحداً من الخارج، ولا تنتظروا شيئاً أو حدثاً أو تطوراً. إسمعوا منا، ورتبوا أموركم في الداخل. فالخارج ليس معنياً ولا مهتماً ولا ملتزماً. إسمعوا منا…

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى