نافذ أبو حسنة في “مقام البكاء”- معين الطاهر
أرهقنا هذا العام وأوجعنا، ولم تنتهِ فصوله بعد. اختطف منا أحبة قبل أن نقتنص منهم لحظة وداع أخيرة، وفرض علينا جميعاً البقاء في عزلةٍ إجبارية، وسجن منزلي… هل استحال هذا العام مقاماً للبكاء؟ و”مقام البكاء” هو عنوان الرواية الأولى للصديق نافذ أبو حسنة الذي رحل عنا مبكراً، عن 59 عاماً، قبل أن يكتمل مشوارنا، ويتحقق حلمنا.
عرفت نافذ بعد توقيع اتفاق أوسلو، حين عملنا معاً، ومع صلاح الدباغ، وعزمي بشارة، وبلال الحسن، ومنير شفيق، وأنيس مصطفى القاسم، وآخرين كثيرين، على تأسيس الهيئة الوطنية لحماية ثوابت الشعب الفلسطيني. كان طموحنا أن نقيم مثل تلك الهيئة في كل بلد عربي، فيصبح لدينا الهيئات، المصرية والأردنية والمغربية والكويتية، إضافة إلى الهيئة الفلسطينية، إلى آخر تلك السلسلة الطويلة، لتُعنى بحماية ثوابت الشعب الفلسطيني، وروايته التاريخية، أمام كارثة أوسلو ومسلسل التطبيع العربي الذي بدأ ولم تنتهِ فصوله. نجحنا في عقد مؤتمر عربي شامل في بيروت، ضمّ عشرات الشخصيات الوازنة من مختلف القوى والتيارات القومية واليسارية والإسلامية في العالم العربي كله، وكان نافذ أبو حسنة وزميلتنا ميرفت أبو خليل فارسَي ذلك المؤتمر؛ تخطيطاً وإدارة وتنظيماً وتنسيقاً.
ولد نافذ في غزة التي ما لبث أن نزح عنها مع عائلته، بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، إلى دمشق التي ترعرع فيها وتخرّج من جامعتها، ثم غادرها إلى بيروت خلال الأحداث الحالية، ولم تجد عائلته مكاناً يؤويها ويجتمع شملها فيه، فاضطرّت إلى الهجرة إلى أقصى بقاع الأرض، إلى البرازيل، بعد أن فشلت جهودها في الحصول على الإقامات اللازمة في لبنان أو في أي بلد عربي، حالهم حال آلاف الفلسطينيين المقيمين في سورية الذين تقطعت بهم السبل، وضاقت أمامهم الدروب.
ولد في غزة التي نزح عنها مع عائلته، بعد حرب 1967، إلى دمشق التي ترعرع فيها وتخرّج في جامعتها، ثم غادرها إلى بيروت
بنى نافذ بيتاً في منطقة الحجر الأسود القريبة من مخيم اليرموك، فنُهب البيت وحُرق. تنقل في حياته بين أكثر من عشرين منزلاً، في غزة وعمّان ودمشق وبيروت، وصولاً إلى البرازيل، لكن حزنه كان مضاعفاً على مكتبته التي أُحرقت في منزل الحجر الأسود، وفقدانه مخطوطاتٍ وتسجيلات سجلها مع عشرات الشخصيات الفلسطينية، ومسوَّدات كتب وأعمالاً أدبية كان يعكف عليها.
في بيروت، أضحى نافذ إعلامياً لامعاً، عمل في فضائيات عدة، قبل عمله مديراً تنفيذياً لقناة فلسطين اليوم، ويساهم في تطويرها، وتدريب عشرات الكوادر الإعلامية اللبنانية والفلسطينية. ومن هذه المنابر، كانت قناة القدس التي قدّم فيها برنامجه “كل الحكاية” مع شخصيات فلسطينية وعربية، تمكّن خلاله من تدوين تاريخ الحركة الوطنية في حلقات مسجله، كان نصيبي منها ستاً ألهمتني وحفزتني على كتابة تجربتي لاحقاً. كذلك أعدّ عشرات البرامج والأفلام الوثائقية التي عُرضت على فضائيات عدة. وألّف وأعدّ كتباً سياسية، منها “جغرافيا الاستيطان” و”وهم الدولة” و”الأحزاب الصهيونية العلمانية والدينية في إسرائيل”، و”خالد الفاهوم سيرة ذاتية”، وروايتان “مقام البكاء” و”عسل المرايا“.
حزنه كان مضاعفاً على مكتبته التي أُحرقت في منزله، وفقدانه مخطوطاتٍ وتسجيلات سجلها مع عشرات الشخصيات الفلسطينية، ومسوَّدات كتب وأعمالاً أدبية كان يعكف عليها
قبل نحو أربعة أعوام، عزم اثنانا، نافذ وأنا، على عمل مشترك يتمثل في كتابة نقدية تتبع مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، ووضعنا مخططاً تفصيلياً لهذا العمل، وصادف بعدها بأسابيع أن شاركت في مؤتمر عن المشروع الوطني الفلسطيني، نظمه في الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قدمت فيه ورقة. وعلى هامشه، كان لي لقاء مع المدير العام للمركز، عزمي بشارة، حول هذا المشروع الذي ساهم الصديق محمد المصري برسم تفاصيله وتحويله إلى مشروع لبحث الحركة الوطنية الفلسطينية (ذاكرة فلسطين) وتأريخها، وأصبح بمتابعةٍ من الدكتور بشارة من المشاريع البحثية الرئيسة في المركز. ومنذ اليوم الأول للمشروع، كان نافذ أحد رواده، وما لبث منذ عام 2018، حتى تفرغ له. وخلال تلك الفترة، راجع مخرجات المشروع وإصداراته، وشارك في تحكيمها وتدقيقها، وعمل بشكل رئيس على تصنيف وإعداد يوميات أكرم زعيتر التي دوّنها بين 1949 و1984، وقد نُشر الجزء الأول منها، تحت عنوان “سنوات الأزمة 1967-1970″، وستُنشَر الأجزاء الأخرى تباعاً. وعمل أيضاً على إعادة ضبط مذكرات أحمد اليماني (أبو ماهر) التي ستُنشر قريباً، إضافة إلى عمله الدؤوب على إعداد وتحرير ومراجعة مذكرات شخصيات أخرى لم تُنشر بعد، مثل صلاح الدباغ، ومنير شفيق، وتسجيله شهادات وتجارب أسيرات فلسطينيات ومقاومين من المخيمات الفلسطينية خلال الاجتياح الصهيوني عام 1982، وأعمال أخرى أعدّها أو شارك فيها، يضيق المجال عن حصرها، وسترى النور قريباً.
عمل على تصنيف وإعداد يوميات أكرم زعيتر التي دوّنها بين 1949 و1984، وقد نُشر الجزء الأول منها، وستُنشَر الأجزاء الأخرى تباعاً
ترك عندي نافذ مخطوطاً عن التجربة العسكرية الفلسطينية، اتفقنا على أن نكمله معاً. وقبل وفاته بأسابيع، أرسل إليّ مخطوطاً آخر بعنوان “التسويق السياسي لصفقة القرن”، طالباً مني مراجعته. لوهلة ظننته أطروحة الدكتوراه التي يُعدّها، وهو مخطوط قيّم أعدته إليه مع ملاحظات طفيفة، ووعد بالانتهاء منها بسرعة، لكن مفاجأتي كانت أنها عمل جديد له، وأن أطروحة الدكتوراه هي عن الاتحاد السوري – العراقي، وأوشك على الانتهاء منها أيضاً. ويبدو أن مراجعته يوميات أكرم زعيتر، وما تضمنته من معلومات وأسرار قيّمة عن تلك الفترة، وجهته إلى هذا الموضوع. عجبت من أين يأتي بكل هذا الوقت لكل هذا العمل والإنجاز، ومن أين تأتيه هذه الطاقة الجبارة على متابعة أدق التفاصيل، وهو لا يرفض دعوة صديق أو حاجة له إلا ويلبيها مهما كانت!
كان نافذ أبو حسنة ثابتاً على مبادئه، ملتزماً قضايا شعبه، وحاملاً هموم هذا الشعب وآماله، محباً للحياة، وحالماً بغد أفضل، وموقناً بنصر قادم. رحل عنا قبل الأوان وتركنا في مقام البكاء.