بقلم ناصر قنديل

توازن رعب سياسيّ
يحكم التحرّك الفرنسيّ: ناصر قنديل

راجت في الوسطين السياسي والإعلامي مقولات تنطلق من اعتبار المقاربة الفرنسية نحو لبنان كفرصة إنقاذية يجب الإنصات إليها قبل أن تضيع، وترافق هذه القراءات تحذيرات من أي مناقشة لمضمون الطلبات الفرنسية تفادياً لخطر ضياع الفرصة، فيما يستطيع المتابع الجدي للسياقات التي رافقت تصعيد الأزمة في لبنان أن يكتشف توازن الرعب السياسيّ الحاكم للتحرك الفرنسي، وحجم المساحة التي يُتيحها للبنانيين الراغبين بفتح الطريق لفرصة إنقاذية تستفيد من المبادرة الفرنسية من دون الوقوع في وهم مساعي الخير، والشعور بالضعف، والقلق من غضب فرنسي يؤدي للانسحاب، ولعل هذه الزاوية هنا كانت قد توقعت مبكراً المأزق الذي ينتظر مشروع الحصار على لبنان وطريقه المسدود، وتداعياته الجانبية التي ستجعل أصحابه يعيدون النظر فيه، قبل أن تكون النتائج الكارثية التي لا يريدونها.

 

كان واضحاً للكثيرين أن العقوبات والحصار بهدف إضعاف حزب الله وترويضه سياسياً في ملفات المنطقة، خصوصا الصراع مع كيان الاحتلال، ستؤدي إلى إضعاف حلفاء واشنطن، وبيئتهم الشعبية قبل أن تصل آثارها إلى حزب الله وبيئته الشعبية، وأن التفكك السياسي سيصيب بيئات وشوارع الآخرين قبل أن تحقق شيئاً يذكر في بيئة وشارع المقاومة، كما كان واضحاً أن الضغط على لبنان واللبنانيين عبر التلاعب بالقدرة الشرائية لعملتهم سيصل إلى نقطة حيث لا يتأثر حزب الله، ويتأثر تماسك الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية التي يتقاضى العاملون فيها رواتبهم بالليرة اللبنانية، بصورة تجعل تفكك الدولة وتراجع قبضتها في مناطق تشكل خواصر رخوة يسهل نمو التطرف فيها ويخشى تحولها إلى بؤر للإرهاب الذي يهدّد عبر ساحل المتوسط أصحاب العقاب والحصار.

على الصعيد السياسي كان واضحاً أيضاً، أن منهج الحصار والعقاب سيفتح الباب لتداعيات وردود أفعال وتحديات، كتبنا في هذه الزاوية مرارا عنها، أبرزها تحدي التوجه شرقاً، الذي برزت جديته عبر التفاهم النوعي الكبير بين إيران والصين، الذي اعتبره الأميركيون على أعلى مستوياتهم، أخطر تحول جيواستراتيجي في القرن الحالي، وبالتوازي خطر الانفجار العسكري الإقليمي الذي كانت المواجهة عبر الحدود بين المقاومة وجيش الاحتلال على قاب قوسين من أن تشكل نقطة بداية في مسار يخرج عن السيطرة، وبدا واضحاً أن العروض الأميركية التي جاءت تحت عنوان مقايضة الانسحاب الأميركي والإيراني من سورية وترسيم الحدود البحرية للبنان بشروط المصالح الإسرائيلية، ليست مؤهلة لسحب فتائل التوتر ومنع الانفجار.

في زاوية غير مرئية كان التحرك التركي محور شدّ وجذب، وقد شهدت هذه الزاوية الكثير من الشرح لهذا البعد، فتركيا تستعدّ لملء الفراغ السعودي، وتطلب من إيران تسهيل المهمة، وتعرض مقايضة وجودها في سورية بفتح أبواب لبنان أمامها، ومعلوم أن تركيا لا تملك امتدادات اجتماعية مدنية تستند إليها بقدر ما تمتلك نفوذاً في جماعات التطرّف الخطر، وتمسك بالجماعات الشمالية في الحراك التي تشكل عنوان التصعيد في الحراك الشعبي، ووفقاً لبعض التقارير الفرنسية يشكل التصعيد أمام مجلس النواب بعد زيارة الرئيس الفرنسي رداً تركياً على الزيارة، وفي الإطار الأوسع هناك مواجهة فرنسية تركية على مساحة المنطقة والمتوسط، لم يعد ممكناً كسبها لصالح فرنسا من دون كسب لبنان، وقطع الطريق على تركيا بإغلاق الباب الإيراني أمامها، والمدخل تقديم عرض لحزب الله يتيح إقناعه بأنه خارج دائرة الاستهداف وبأن سياسة الحصار الهادفة لزعزعة استقرار لبنان ستتوقف.

جاء تفجير المرفأ بما حمله من مناخ تعاطف إنساني على مستوى العالم، وعشية ذكرى ولادة لبنان الكبير، ليمنح فرنسا الفرصة لوضع خطتها على الطاولة الأميركية، خصوصاً أن التفجير فتح ملف المؤسسة الاقتصادية الأهم التي يمثلها المرفأ، وحيث بدا أن الصين مرشح أول لإعادة الإعمار في ظل المقاطعة الغربية، وأن تركيا مستعجلة للحضور لاستغلال الفرصة، فجاءت المبادرة الفرنسية ضمن ضوابط توازن الرعب السياسي المحيط بولادتها، لتقول ثلاثة أشياء برمزية شديدة لكن واضحة، الأول أن حزب الله شريك رئيسي لا يمكن تجاهله في بناء مؤسسات الدولة، والثاني أن المطلوب ترك قضايا الخلاف الكبرى جانباً وفي مقدمها محاولات البعض المحسوب على الغرب باعتبار مستقبل سلاح المقاومة أولوية سياسية، والثالث أن لا مجال لمحاولات الربح السياسي الفئوي من بوابة البحث بفرض شروط على تشكيل الحكومة او بالدعوة للانتخابات المبكرة، ومن هذه الضوابط رسم الإطار لحكومة ترضي الجميع وتتولى النهوض الاقتصادي.

– النظر للدور الفرنسي يجب أن يبقى محكوماً بالسياق الذي ولد فيه، حيث الضغط الأميركي وصل لطريق مسدود، وحيث تداعيات الحصار فتحت الباب لمخاطر لا يحتملها وضع المنطقة ولا تتناسب مع المصالح الغربية، وحيث التسويات التي تعترف بالتوازن تشكل أقل الخيارات تسبباً بالخطر. وهذا ما يمنح الفريق اللبناني المعني بالتفاوض مع الفرنسيين الفرصة لتفاوض متوازن يدرك نقاط قوته لمنع تحويل المبادرة الفرنسية الى وصاية وانتداب، وإبقائها ضمن معادلات الوضوح النابع من تقاطعات مصالح، ليس فيها فاعل خير ولا منقذ، والطلبات اللبنانية السيادية ليست أبداً قابلة للنظر إليها وفقاً لمقولة “شحاد ومشارط”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى