حياد لبنان: الواقع والمحال… وماذا بعد المطالبة به !(2): د. عدنان منصور*
5 ـ حياد لبنان ليس نظرية تحرّكها رغبات مسؤول سياسي او روحي، او خلفيات فئة، او مغامرة قلّة. فلبنان محكوم بواقع الجغرافيا والتاريخ والأمن المشترك للمنطقة كلّها. ولا ننسى مطلقاً انّ الذي رسم حدود لبنان وسلخ أجزاء من سورية ليضمّها إلى لبنان الكبير عام 1920 هو المستعمر. وهذا لا يعني أنّ السلخ يبعد لبنان عن محيطه وعن انتمائه لعالمه العربي، او تحييده عن قضاياه المصيرية المشتركة، التي لازمته ولم تفترق عنه. وبالذات عن سورية التي ارتبط بها تاريخاً ووجداناً ومصيراً وأمناً، ما سيجعل سورية ـ وهذا أمر طبيعي ـ أن ترفض هذا الحياد بالشكل والأساس، لكونه سيكون مؤذياً للداخل والإقليم في المستقبل، وسيكون مريحاً للعدو الإسرائيلي. إذ أنّ المطلوب من الحياد، إنهاء وإبعاد المقاومة الفعلية عن أرض لبنان نهائياً، لتصبح الحدود الجنوبية بعد ذلك، عارية، مكشوفة للعدو، وتكون في أيّ وقت تحت رحمة جيش الاحتلال ونيات قادته العدوانية؟ كيف يمكن الأخذ بمبدأ الحياد، والنسيج الوطني اللبناني عرضة للاهتزاز في ايّ وقت، لغياب دولة فاعلة قوية حيث حكمت لبنان طبقة سياسية فاشلة على مدى عقود، لم تستطع ان تجمع اللبنانيين على هدف وطريق وانتماء واحد، وعلى التمييز في العلاقات بين العدو والصديق، في عالم يسوده التنافس والاستقطاب والصراعات والتكتلات؟! كيف يمكن للبنان ان يعلن حياده وأن ينفصل عن محيطه وهو جزء من منطقة ملتصقاً بها تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وثقافة وأمناً واستقراراً واقتصاداً؟ فهل القوى والفصائل الإرهابية التي ضربت دول المنطقة المشرقية، كانت ستمتنع فيما لو كان لبنان بلداً حيادياً، من وضعه على خريطتها الجغرافية لإقامة دولة داعش على أرضه والنيل منه، مثلما وضعته قبلاً، مع باقي الدول العربية المستهدفة على خريطتها؟
لا يكفي أن يطالب لبنان أو يعلن من تلقاء نفسه عن حياده. هذا الحياد يجب أن يحظى أيضاً بموافقة ورضى دول إقليمية محيطة به، وكذلك على موافقة الدول الكبرى. لكن في ظلّ الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة، والتجاذبات الحاصلة والتأثيرات والسياسات الهادفة الى إيجاد مواقع نفوذ لها، يجعل هذه الدول لا تستسيغ حياد لبنان، وهو بوابة المنطقة المطلّة على التطورات والأحداث الساخنة، ومركز تجاذبات للأطراف المتصارعة إقليمياً ودولياً.
الحياد لا يأتي من طرف واحد، وإنما أيضاً من موافقة الإقليم والخارج، وبالذات من الداخل وهو الأساس، بعد أن يكون هنالك إجماع شعبي واسع، وهذا غير موجود على الأرض. كما أنه من الصعب تأمين هذا الإجماع لغياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة لتعداد السكان، وعدم التوافق على مَن يشمله الإحصاء، وغياب نص دستوري يجيز إجراء استفتاء شعبي حول قضية رئيسة، وهذا ما يستدعي تعديل الدستور وهو أمر في غاية الصعوبة وخاضع للاجتهادات المتباينة.
وأمّا إقليمياً، ليس هناك من قبول على فكرة الحياد لأسباب قومية وأمنية واستراتيجية. إذ انّ لبنان بحكم موقعه الجيواستراتيجي يجعل منه محطّة جذب واهتمام لسياسات الدول الكبرى والدول الإقليميّة (سورية بالتحديد). وهو همزة الوصل للصراعات الإقليمية، والبوصلة التي تحدّد اتجاهات الدول المعنية بشؤون المنطقة، حيث تفرز هذه الصراعات انقساماً في الداخل اللبناني حيالها بين فريقين، كلّ فريق له موقف مؤيّد وداعم لطرف من أطراف الصراع.
6 ـ لقد شهد العالم حياد عدد من الدول كان أبرزها:
سويسرا ولوكسمبورغ وبلجيكا والنمسا، حيث كرّس مؤتمر فيينا عام 1915 حياد سويسرا. هذا الحياد مهّدت له معاهدة سلام دائم، وقّعتها الكونفدرالية السويسرية الأولى مع فرنسا عام 1516، بعد سنة من الهزيمة النكراء التي تعرّض لها جيش الكونفدرالية على يد الجيش الفرنسي. وكانت المعاهدة المنطلق الأول لالتزام سويسرا بالحياد. وفي ما بعد، أبرمت المقاطعات السويسرية معاهدات بينها، أثناء النزاعات والحروب التي نشبت بين الدول البروتستانتية والكاثوليكية وانتهت بمعاهدة ويستفالي Westphalie، بالإضافة الى معاهدات أخرى قرّرت بموجبها المقاطعات السويسرية البروتستانية والكاثوليكية، أن تكون في حالة صلح وحياد دائم مع هذه الدول.
مؤتمر فيينا عام 1815 الذي ضمّ فرنسا، بريطانيا، النمسا، البرتغال، بروسيا، روسيا والسويد، التزم بحماية سويسرا وضمان عدم الاعتداء عليها. كما انّ معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، أكّدت على حياد سويسرا الدائم الذي التزمت به التزاماً كاملاً، رغم أنها انضمّت الى منظمة الأمم المتحدة، حيث تترتب عليها التزامات المساهمة في إجراءات عسكرية مشتركة، تتخذها المنظمة الدولية وتقديم العون والمساعدات لمناطق الحروب والنزاعات.
أمّا حياد بلجيكا، فيعود الى عام 1850 الذي كان المقدّمة لاستقلالها. ففي عام 1850 وبعد هزيمة نابوليون وانكفائه عن الأراضي الأوروبية التي وقعت تحت سيطرته، أعلن مؤتمر فيينا عن «الأراضي الشاغرة» للمقاطعات البلجيكية السابقة التي كانت جزءاً من الامبراطورية الفرنسية. وبما انّ المقاطعات لم تكن تابعة لأحد، فقد ألحقها المؤتمر بهولندا من أجل إنشاء مملكة جديدة، اتخذت اسماً لها: مملكة البلاد المنخفضة.
بعد ثورة 1830 أعلن استقلال بلجيكا، ما استدعى ملك البلاد المنخفضة الى توجيه نداء إلى أوروبا للعمل على إعادة وحدة أراضي المملكة لكن دون نتيجة. كان على بلجيكا أن تنتظر عام 1850 تاريخ انعقاد مؤتمر لندن الذي ضمّ فرنسا والنمسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا، ليقرّ ويأخذ بالشعور الشعبي وبالأمر الواقع لبلجيكا. في 20 كانون الأول من العام ذاته، أعلن مؤتمر لندن حلّ مملكة البلاد المنخفضة وسمح للحكومة المؤقتة في بروكسل بإرسال مندوبين الى لندن، حيث ناقش المؤتمر الترتيبات المستقبلية وتوافق وانسجام الاستقلال لبلجيكا مستقبلاً، مع مصالح وأمن الدول الكبرى، ومع التوازنات الأوروبية.
كان المؤتمر إذن، عازماً على حماية استقلالية بلجيكا، وايضاً حفظ أمن القوى الكبرى، والتوازن الأوروبي، هذا ما أدّى الى إعلان الحياد الدائم للدولة الجديدة، وجعل بروتوكول 20 كانون الثاني لعام 1857 يثبّت قواعد انفصال بلجيكا عن هولندا في مادته الخامسة التي جاء فيها: «انّ بلجيكا ستشكّل دولة حيادية دائمة والقوى الخمس ستضمن هذا الحياد الدائم وكذلك عدم خرق أراضيها». لكن هل احترم حياد بلجيكا في ما بعد؟ في عام 1914 وقبل إعلان الحرب على فرنسا من قبل المانيا، زار وزير الخارجية الألماني بروكسل يوم 2 آب حيث أعطى تطمينات شكلية في ما يتعلّق باحترام حياد بلجيكا. ثم أودع وزارة الخارجية البلجيكية مذكرة تتضمّن إنذاراً من قبل الحكومة الألمانية، وجاء فيها: انّ معلومات مؤكدة، تشير الى انّ القوات الفرنسية تستعدّ لعبور نهر الموز La Meuse من جهة منطقة نامور Namur البلجيكية. وهذا ما يبيّن نية فرنسا ـ حسب المذكرة ـ للدخول الى ألمانيا عبر الأراضي البلجيكية. انّ حكومة الامبراطورية الألمانية رغم اقتناعها بنيات بلجيكا الطيبة، فهي ليست في وضع ان تدفع عنها بنجاح زحفاً فرنسياً يحمل مخططاً واسعاً، بطريقة تضمن لألمانيا أمناً كافياً ضدّ هذا التهديد الفرنسي. انه واجب امبراطوري يقع على ألمانيا لدرء هجوم مسبق من قبل العدو.
حجّة المانيا الواهية كانت تخبّئ اجتياحاً عسكرياً تبرّره بموجب مضمون هذه المذكرة. إذ انه يوم 2 آب قامت القوات الألمانية باجتياح أراضي لوكسمبورغ دون إنذار أو قرار مسبق، ودون أي ذريعة لتبرير العدوان. لقد كانت تحصينات لوكسمبورغ التي أزيلت بموجب معاهدة 1867 جعلت الدوقية في وضع يستحيل معه الدفاع عن نفسها مكتفية بالاحتجاج، حيث أبلغ رئيس وزرائها بول ايشنPaul Eychen حكومات الدول الكبرى الضامنة لحياد لوكسمبورغ، عن العنف الناجم عن الاجتياح الألماني، وذلك بموجب مذكرة رسمية تناولت تطورات الغزو الألماني، مشيراً الى انّ حكومته احتجّت بكلّ قوة ضدّ هذا العدوان الى ممثل امبراطورية ألمانيا في لوكسمبورغ!
في 10 تشرين الثاني، عقد البرلمان جلسته لتدارس الأوضاع، فأعرب بلغة حزينة، عن أنّ حياد لوكسمبورغ خُرق، وهي التي التزمت بالكامل بحيادها ولم تقصّر بالتزاماتها الدولية، وأنها ظلّت حتى يومنا هذا كدولة مستقلة سعيدة بالتزاماتها وواجباتها بالداخل كما في الخارج، وأثبتت أنها جديرة وقادرة على الحياة، وتريد ويجب عليها ان تستمرّ في الحياة. أيّاً كان التزام الدوقية بالحياد، وحرصها على الحياة، فهذا لم يمنع القوات الألمانية من اجتياح لوكسمبورغ والأراضي الجنوبية لبلجيكا في الاردان Ardennes ومن ثمّ غزو الأراضي الفرنسية.
لكن في معاهدة فرساي عام 1919 تخلّت بلجيكا عن حيادها بناء على رغبتها. كما أنهت المعاهدة أيضاً حياد لوكسمبورغ الذي تقرّر في معاهدة لندن عام 1867.
امّا النمسا التي وقعت تحت الاحتلال الألماني مع بداية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تحت احتلال الحلفاء حتى عام 1955، فقد بادرت الى الإعلان عن رغبتها بالحياد الدائم، تجنّباً للحروب والنزاعات المستقبلية بين الدول الأوروبية خاصة أنها في قلب القارة، وعلى حدود كتلتين كبيرتين، شرقية وغربية، أفرزتهما نتائج الحرب العالمية الثانية. حياد رأت فيه النمسا سيادتها الوطنية وسلامتها الإقليمية مقابل عدم الدخول في أيّ حلف عسكري، او إقامة قواعد عسكرية على أراضيها. وقد تمّ إبرام المعاهدة التي تؤكد على الحياد الدائم للنمسا في 15 أيار 1955 بينها وبين الدول الكبرى: الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا وفرنسا. وفي 26 تشرين الأول 1955 صدر الدستور النمساوي الذي أكّد على حياد النمسا واحترام الموجبات والالتزامات المترتبة عنه، وان انضمّت النمسا في ما بعد مثل سويسرا إلى الأمم المتحدة لتصبح عضواً كاملاً فيها.
لا يكفي إذن أن تعلن دولة ما حيادها بإرادتها الحرة. فهذا الحياد لا بدّ له من ان يحظى على موافقة وطنية شعبية في الداخل، وأيضاً قبول وموافقة وضمان الدول الكبرى المعنية بهذا الحياد وتوافقها وتوفيرها له فرص النجاح والاستمرارية من خلال معاهدة دولية تحدّد الموجبات والحقوق بين الأطراف الموقعة عليها، وتعطيها صفة الحياد الدائم.
فإذا كان واقع الحال قد توفّر لعدد قليل من دول العالم فرصة الحياد الدائم، فإنّ واقع الحال في لبنان بعيد كلّ البعد، عن الظروف والخصوصية والمعطيات والقناعات والإرادة السياسية والشعبية التي توفّرت لهذه الدول الحيادية. فأين لبنان منها وفيه أديان وطوائف، ومذاهب متباعدة وانتماءات وتوجهات سياسية وعقائدية متناحرة، ومفاهيم متباينة حول الدولة والحكم، حول الحصص الطائفية والمناطقية، حول النظام والدستور، حول الأقلية والأكثرية، حول الانتماء «الفينيقي» والقومي، حول الانفتاح والانعزال، حول التوجه للشرق او للغرب، حول تحديد العدو من الصديق، والوطني من الخائن والمقاوم من الميليشياوي والمناصر من المتآمر؟!
ايّ حياد للبنان هو هذا الحياد الذي يريده البعض ان يحيّد نفسه عن مشاكل الخارج وهو الذي لم يستطع ان يحصّن نفسه في الداخل ويبني دولة قادرة مقتدرة، دولة القانون والعدالة، دولة البناء والتنمية المستدامة، دولة الوحدة الوطنية والعيش المشترك الحقيقي.
ما يُخشى منه، أنّ الأصوات التي علت في السنوات الأخيرة وخاصة في الأيام الماضية لتنادي بحياد لبنان، تعرف جيداً انّ هذا الحياد بحكم انتماء لبنان لمنطقته المشرقية أمناً ومصيراً، ورفض غالبية أبناء شعبه له، يستحيل الأخذ به وتطبيقه. اللهمّ إلا إذا كان من ينادي به، ويعرف مسبقاً صعوبة واستحالة الأخذ بهذا الحياد، له مآرب بعيدة يراهن عليها ويمهّد لها في ما بعد، لوضع اللبنانيين أمام الأمر الواقع ليقول لهم وللعالم: إذا كان الحياد يتعذّر علينا تحقيقه في لبنان، فليس أمامنا إلا خيارات أخرى: الحكم الذاتي او التقسيم وعليكم ان تختاروا.
خيار اللبنانيين الوطنيين القوميين ثابت لا رجعة عنه ولا تبديل او مساومة عليه وهو: لا هذا ولا ذاك. فمن دافع عن الأرض وحرّرها يستطيع أن يسقط الحياد المشبوه وغيره، ويدافع عن وحدة لبنان وشعبه مهما غلا الثمن.
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
(البناء)