المقاومة الاقتصاديّة حاجة لبنانيّة للدفاع عن النفس.. فما هي أركانها؟: العميد د. أمين محمد حطيط _
بعد أن باتت مكشوفة خطة أميركا التي تستهدف لبنان عدواناً عليه من أجل الإطاحة بمكتسباته التي حققها بصموده ومقاومته التي حرّرت الأرض في الجنوب وأقامت توازن الردع الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي ووفرت الحماية الفاعلة لثرواته الطبيعية من ماء ونفط، بعد أن اتضحت معالم تلك الخطة باعتبارها تقوم على سلسلة من حلقات تبدأ بالحصار والتجويع وتمرّ بالفتنة والاقتتال الداخلي وتنتهي بعدوان إسرائيلي يشترط لتنفيذه النجاح في المراحل السابقة أي فرض التجويع ونشر الفتن والاقتياد إلى الحرب الأهلية.
بعد كل هذا أضحى الدفاع عن لبنان ومنع العدوان الإسرائيلي عليه وقبله منع الفتنة والاقتتال فيه، يبدأ بمنع التجويع، وباتت مسألة تحقيق ما يحتاجه الناس من أجل معيشتهم من سلع وخدمات، واجباً وطنياً يندرج في إطار تحقيق الأمن والسلامة العامة، باعتبار أنّ الأمن الغذائي والأمن المعيشي هو في الأصل فرع من فروع الأمن العام أما مع وجود خطة عدوان خارجي تستند إلى هذا العنصر وتتوسّل الإخلال بالأمن الغذائي للنيل من لبنان، فقد بات تحقيق الأمن. هذا يشكل وجهاً من وجوه الدفاع.
وبهذا يجب ان تفهم دعوة الأمين العام لحزب الله لممارسة المقاومة الاقتصادية عبر تحويل التهديد بالجوع والعوز والفاقة، إلى فرصة يستغلها لبنان يحول من خلالها اقتصاده من اقتصاد ريعي واهن يقوم على الخدمات إلى اقتصاد قوي متماسك يقوم على الإنتاج، اقتصاد تكون عماده الزراعة والصناعة التي يتحكم بمسارها اللبناني ذو الخبرة والكفاءة والقادر على استغلال أرضه في الزراعة وأمواله وكفاءاته في الصناعة استغلالاً يمكنه من تحويل وجهة توفير السلع واستبدال المصادر الخارجية لها التي تهدر الأموال الصعبة إلى مصادر داخلية تحقق له اكتفاء ذاتياً يبقي العملة الصعبة في الداخل في مرحلة أولى ثم يتطور إلى التصدير ليصبح مصدراً لتدفق الأموال من الخارج بما يعيد شيئاً من التوازن للميزان التجاري الذي تفاقم اختلاله منذ العام 1992 تاريخ الاعتماد حصراً على الاقتصاد الريعيّ وتدمير الصناعة والزراعة في لبنان بعيداً عن الاقتصاد الإنتاجي.
علينا أن ندرك أننا في حرب حقيقية الآن وان المواجهة فيها ليست بين تجار يتنافسون على ربح مادي من أسعار سلع وخدمات يوفرونها. فالمسألة ليست تنافساً واحتكاراً يمارسه تاجر بل هي حرب بكل معنى الكلمة تقوم على مبدأ أطلقه الغرب منذ ثلاثة قرون قال فيه إن “مالك الرزق يكون مالكاً للعنق ومن تحكم بلقمة عيشك أخضعك بسهولة”، مبدأ اتجهت أميركا إلى العمل به وبشراسة بعد ان عجزت في المواجهة في الميدان رغم تقلبها في مختلف صيغ المواجهة واستراتيجيتها من قوة صلبة إلى قوة ناعمة إلى قوة مركبة ذكية. بعد كل هذا قررت أميركا الحرب الاقتصادية او الإرهاب الاقتصادي تمارسه على لبنان عامة وتدّعي بأنها تستهدف به حزب الله فقط وهو ادّعاء كاذب طبعا، وبعد أن بلغت المواجهة بين المحور الاستعماري الذي تقوده أميركا ومحور المقاومة الذي ينتظم فيه حزب الله أوجها في لبنان وطالت لقمة المواطن وكل مفاصل حياته ومعيشته وباتت محطة ممهدة للعدوان الخارجي على لبنان، عدوان يستهدف حقوقه في الأرض والبحر وسيادته في الأجواء، فإن مواجهة عدوان أميركا ورفض الاستسلام لها باتت تشكل واجباً وطنياً يندرج في سياق الدفاع عن الوطن دفاعاً يهدف إلى التحرر الاقتصادي من الهيمنة الأميركية، تحرراً لا يقل أهمية عن تحرير الأرض والإرادة.
والتحرر الاقتصادي المطلوب هذا هو الذي يستلزم المقاومة الاقتصادية التي يجب أن يلتزم بها كل مواطن قادر على عمل ما في سياقها، مقاومة لا تقتصر على مسألة تحويل الإنتاج من ريعي إلى إنتاجي والسير في طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الاستهلاكيّة والخدمات التي يحتاجها الفرد والجماعة، بل مقاومة تشمل التفلت من القبضة الأميركية في اختيار الشركاء في العملية الاقتصادية والخروج من حالة يكون فيها رضا أميركا شرطاً للتعامل الاقتصادي مع الخارج إلى وضع تكون فيه “مصلحة لبنان هي المحرك لإقامة أي علاقة مع الخارج” وفي حال انتقل لبنان من الأولى إلى الثانية أي انتقل من رضا أميركا إلى مصلحة لبنان، سيجد أميركا تتراجع كثيراً عن ممارستها الوحشية للإرهاب الاقتصادي ضده… وعلى لبنان أن يملك شجاعة القرار وشجاعة المواجهة في التنفيذ وسيجد أن الأمور أهون بكثير مما كان يُتوقّع أو يُظنّ.
وإضافة إلى التحوّل في طبيعة الاقتصاد، والتحوّل في اختيار الأسواق الخارجية، هناك شرط ثالث لنجاح المقاومة الاقتصادية، وهو شرط داخلي إداري مالي ذاتي، يتمثل بالإصلاح الإداري والمالي وبمراجعة النظم الإدارية والمالية القائمة في لبنان والقيمين عليها، والانتقال من التصوّر القائم اليوم لدى غالبية الموظفين في لبنان ومن كل الفئات والأسلاك، تصور يتمثل بالقول بأن “الوظيفة العامة هي ملكية واستثمار” ملكية للطائفة واستثمار بيد مَن يتولاها، والانتقال إلى المفهوم الوطني لها واعتبار “الوظيفة العامة خدمة وطنية عامة” والموظف عامل مأجور لدى لشعب وليس جلاداً يتحكم بأموال الشعب وأعصاب أفراده.
إنها شروط ثلاثة يفترض توفرها لنجاح المقاومة الاقتصادية بالشكل الذي يعول عليه لإنقاذ لبنان وحمايته وجوداً ودوراً، شروط يجب أن تكون ماثلة في ذهن كل مَن يحاول وضع استراتيجية دفاعية للبنان، فالدفاع لا يتوقف عند تحرير الأرض ودرء الخطر الناري عليها بل يشمل كل التدابير التي تستهدف حماية الأرض ومَن عليها في وجوده وحقوقه ومستلزمات عيشه وكرامته وسيادته. وبهذا نجعل الخطر الذي يشكله العدوان الأميركي على لبنان الآن والذي يُنذر بأسوأ العواقب نجعله فرصة يصنع فيها اللبناني حبال النجاة وجسور العبور من دوائر الخطر على المصير إلى مواقع الطمأنينة للمواطن والوطن…
_ أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي
(البناء)