عنصريّة… هزائم… فشل… تنتج «الربيع الأميركيّ» ثم…؟: العميد د. أمين محمد حطيط*
منذ أن انتصرت أميركا في الحرب العالمية الثانية، سارعت إلى فرض شبه وصاية واحتلال واقعي على أوروبا وسعت إلى الهيمنة على كلّ المعمورة ونصّبت نفسها قائدة للعالم، معتقدة أنّ «الله اختارها لتقوم بهذه الوظيفة» من أجل «نشر الحرية والديمقراطية» بين الدول والشعوب، ورفعت شعار «حقوق الإنسان» إلى الحدّ الذي أجازت لنفسها ان تتدخل وتعاقب كلّ من تتهمه بأنه خرق هذه المبادئ وأهدر سلامة أو كرامة مواطنيه. متناسية أنها دولة قامت في الأصل على القتل والاغتصاب والإبادة والتهجير…
ومن المفيد التذكير هنا بأنّ ما يُطلق عليه اليوم اسم الولايات المتحدة الأميركية هي نتاج عمليات متلاحقة بدأت بعد اكتشاف الأرض بهجرة الأوروبيين البيض إليها، وانتهت بإقامة الدولة الحالية بعد الإبادة التي تعرّض لها سكان البلاد الأصليون (أسموهم الهنود الحمر ظناً منهم بأنّ الأرض المكتشفة هي الهند ذات السكان ذوي البشرة التي تميل إلى الحمرة) إبادة رافقها نقل أو استقدام أفارقة من ذوي البشرة السمراء أو السوداء ليكونوا عمالاً وخدماً لهم في مزارعهم وحقولهم. وهكذا نشأت الشخصية الأميركية وتجذّرت فيها النزعة العنصرية التي تجعل من الأبيض سيداً والأسود عبداً والأحمر شخصاً لا يستحق الحياة. وانّ أهمّ وأخطر ما في الشخصية الأميركية نزعتان داخلية قائمة على العنصرية والتمييز بين المواطنين، وفوقية تسلطية قائمة على النزعة الاستعمارية والهيمنة على الشعوب والدول الأجنبية. نزعتان تحكمتا بسلوك أميركا منذ نشأتها ولا زالتا تتحكمان بسياستها وسلوكها داخلياً وخارجياً.
بيد أنّ سياسة التمييز العنصري في الداخل كانت تواجه بين الحقبة والحقبة باحتجاجات وأعمال رفض تصل إلى حدود الثورة وتتوصّل في بعض الأحيان إلى انتزاع قدر من الحقوق لغير البيض، لكنها لم تصل حتى اليوم إلى انتزاع الحق بالمساواة بين المواطنين وبقي التمييز العنصري قائماً رغم تشدّق حكومة الولايات المتحدة الأميركية بحقوق الإنسان وعلى سبيل المثال نجد انّ السود الذين يصل عددهم اليوم في أميركا إلى 1/8 من السكان ليس لهم في الوظائف العامة أكثر من 1/20 وليس لهم إلا عضوين اثنين من 100 عضو في مجلس الشيوخ و10% من النواب. أما الأخطر فليس ما يظهر في الوظائف إنما ما يكمن في نفوس البيض ضدّ السود من نظرة فوقية وازدراء واتهام بالكسل والبلاهة ما يجعل العلاقة بين الطرفين غير ودية وغير سليمة في اكثر الأحيان، وأكثر ما تجلى مؤخراً نموذج عن هذا الأمر ما جاء على لسان ترامب عندما كال الاتهامات والتشنيع ضدّ أوباما وسلوكه وهو سلفه في رئاسة الدولة وهي اتهامات تنضح منها العنصرية بأبشع صورها. أما المثل الأخير الأبشع الراهن للعنصرية الأميركية فقد ظهر في الوحشية التي أقدم فيها شرطي أبيض على خنق مواطن أسود حتى الموت في مشهد شديد الإيلام مثير للأسى والحزن المصحوب بالغضب والاستنكار رفضاً لهذه الوحشية.
وفي مفعول تراكمي أدّت جريمة الشرطي الأبيض إلى إطلاق موجة من الاحتجاجات الشعبية ضدّ التمييز العنصري وضدّ أداء السلطات المحلية والمركزية التي كان فيروس كورونا قد فضح عجزها وتقصيرها وأظهر وهن النظام الصحي المعتمد في أميركا فضلاً عن الخفة والسطحية التي عالج بها المسؤولون بدءاً من ترامب، الوباء على صعيد أميركا كلها ما أدّى إلى إصابة ما يكاد يلامس المليوني شخص من أصل 6 ملايين مصاب في كلّ العالم ووفاة أكثر من 100 ألف من أصل 370 في كلّ العالم. وبات السؤال المطروح الآن هل يتحوّل جورج فلويد (المواطن من أصل أفريقي الذي خنقه الشرطي الأبيض) إلى بوعزيزي أميركا وتتحوّل مدينة مينيابوليس الأميركية إلى مهد للربيع الأميركي كما كانت مدينة سيدي بوزيد التونسية مهداً لما أسمي ربيعاً عربياً وظهر أنه الحريق العربي؟ سؤال جدير بالطرح والاهتمام خاصة إذا عرجنا على أكثر من ملف وموضوع تتخبّط فيه أميركا وتحصد منه نتائج سلبية.
بالعودة إلى واقع الحال الأميركي دولياً فإننا نجد أنّ أميركا تعاني اليوم من فشل وإخفاق وهزائم في الخارج لا تحجبها المكابرة ولا يمكن لإعلام او لحرب نفسيّة إخفاءها، وتعاني من صعوبات في الداخل لا يمكن لأحد ان يتجاوزها ولا يمكن لمليارات الدولارات التي سلبتها من الخليج ان تحجبها، فإذا جمع حصاد الخارج السيّئ إلى أوضاع الداخل السلبية كان من المنطقي ان يطرح السؤال الملحّ «أميركا إلى أين؟» وكيف سيكون وضعها كدولة متحدة وكيف سيكون موقعها في العالم؟ لأنه من الطبيعي ان يفكر المراقب بأنّ الهزائم والاضطرابات لا بدّ أن تلقي بظلها الثقيل على الكيان ودوره لهذا يبرّر طرح السؤال حول مصير أميركا الذي بات تحت علامة استفهام؟
قبل الإجابة نعود للتوقف عند الهزائم الأميركية في الخارج والتي تسبّبت في تآكل الهيبة الأميركية وتراجع قوة الردع الأميركي نتيجة فشل أميركا في أكثر من ملف في طليعتها عدوانها على دول وشعوب الشرق الأوسط خاصة العراق وسورية واليمن، وعجزها رغم الحروب المتعددة الأنواع التي شنّتها وتشنّها من عسكرية إلى إرهابية إلى نفسية إلى اقتصادية وسياسية، رغم كلّ ذلك لم تستطع إسقاط محور المقاومة الذي وجه لها مؤخراً صفعة قاسية في قاعدة «عين الأسد»، صفعة أنزلتها صواريخ إيران الباليستية، وركلة مؤلمة في فنزويلا حملتها ناقلات النفط الإيرانية. صفعة وركلة كانت قد سبقتهما سلسلة من الهزائم الميدانية بدءاً من حرب 2006 في لبنان وصولاً إلى سورية واليمن ومروراً بالعراق بحيث باتت أميركا تضع في رأس أولوياتها اليوم البحث عن انسحاب آمن من المنطقة يحفظ ماء الوجه.
أما على الجبهة مع الصين فإنّ أميركا تحصد مزيداً من الإخفاق مع كلّ موقف تطلقه مهدّدة الصين بشيء ما، وبات من المسلّم به انّ الصين تفعل وتتقدّم وانّ أميركا تصرخ وتتراجع، ولن يكون المستقبل إلا حاملاً أخباراً أشدّ سوءاً لأميركا مما مضى على الصعيد الاقتصادي، وسيكون أمرّ وأدهى إذا فكرت أميركا بالمواجهة العسكرية حيث يؤكد الخبراء الأميركيون انّ هزيمة استراتيجية عظيمة تنتظر أميركا إذا حاربت الصين عسكرياً.
وعلى صعيد العلاقات مع روسيا فقد بات من المتوافق عليه انّ كلّ الحصار والتهميش الذي فرضته أميركا على روسيا ذهب أدراج الرياح مع تقدّم الأخيرة من الباب السوري لتحتلّ موقعاً متقدّماً على الساحة الدولية مكّنها من دون خوف أن تمارس حق الفيتو في مجلس الأمن من دون خشية من أميركا، كما مكّنها من تقديم المساعدة العسكرية للحكومة السورية لإفشال العدوان الإرهابي عليها المدعوم أميركياً.
يبقى أن نذكر بحال العزلة الدولية التي أوقعت أميركا – ترامب نفسها فيها بخروجها من أكثر اتفاق أو معاهدة دولية وتنكرها لقرارات مجلس الأمن وتصرفها خلافاً لقواعد القانون الدولي العام.
أما في الداخل فإنّ أهمّ واخطر ما تواجهه أميركا الآن هو تلك الاضطرابات التي نرى انّ إطلاق اسم «الربيع الأميركي» عليها أسوة بالتسمية الأميركية لما حصل في الشرق الأوسط وأسمي بـ «الربيع العربي» هي تسمية معقولة. هذه الاضطرابات والاحتجاجات التي تكاد تلامس الثورة والتي يرافقها النهب والإحراق والسرقة والقتل والتي تمدّدت الآن خارج مينيابولس (موقع الجريمة ومهد الاضطرابات) لتصل إلى 19 ولاية ولا زالت قيد التوسّع إلى درجة التخوّف من شمولها كلّ الولايات الأميركية الـ 50، ما شكل خطراً جدياً باتت الحكومة الأميركية تخشاه فعلياً جعلها تلجأ إلى فرض إعلان التعبئة في بعض الولايات والاستعانة بالحرس الوطني والجيش في ولايات أخرى، وباتت كلها تشكّل نذر شؤم على أميركا لا يُعرف إلى أين ستودي بالنظام الأميركي الذي يعاني كثيراً أمام تراجع الاقتصاد وتفشي البطالة وإفلاس الشركات واشتداد الغضب الشعبي دون أن ننسى وجود نزعات انفصالية لدى بعض الولايات.
إنّ تراكم هزائم الخارج خاصة في وجه محور المقاومة والصين وروسيا كما تقدّم، مع التخبّط والفشل في الداخل والمعبّر عنه بالفشل في معالجة أزمة كورونا وتفشي البطالة إلى حدّ بات فيه 40 مليون أميركي عاطل عن العمل وإفلاس شركات وإقفال أخرى بما ينذر بوضع اقتصادي صعب يفاقم العثرات الاجتماعية، ثم انفجار الغضب الشعبي إلى حدّ الوصول إلى البيت الأبيض واجتياز الحاجز الأمني الأول أمامه ما أقلق ترامب ودفعه إلى الاختباء في طوابق تحت الأرض وغموض الرؤية في معالجة الأحداث… كلها مسائل تبرّر السؤال هل كيان الولايات المتحدة الأميركية في خطر؟ وهل وحدتها مهدّدة؟ وهل سيتأثر موقعها دولياً بكلّ هذه الأحداث؟
أسئلة جدية لا بدّ من طرحها في ظلّ ما نسمع ونقرأ ونراقب؟ ويُضاف السؤال الآخر هل ستشرب أميركا من كأس ربيعي أميركي خاص بها كما سقت شعوب الشرق الأوسط مما أسمته ربيعاً وكان حريقاً التهم الأخضر واليابس؟ نعتقد ذلك… وعلى أيّ حال انّ أميركا بعد الهزائم الخارجية والانفجارات والعثرات الداخلية لن تكون هي أميركا التي تسيطر على العالم، هذا إذا بقيت موحّدة، وهو أمر نشكّ به.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.
(البناء)