عدل محرَّم على شعب في وطن تائه!: د. عدنان منصور*
عندما يشعر المواطن اللبنانيّ أنّ حقه مصان في بلده، ويعامل بالتساوي مع مواطنيه، أياً كان دينه أو طائفته او مذهبه، او عقيدته السياسية او المنطقة التي ينتمي اليها، فلن يكون للنزعة الطائفية والعشائرية، والانعزالية والتعصب، مجال للدخول الى عقله وسلوكه وممارساته. وعندما يُطبّق القانون نصاً وروحاً، على جميع أبناء الشعب من دون استثناء أو تمييز، حينها سيشعر بالمواطنيّة الحقة، والانتماء الحقيقيّ لوطنه.
في دولة المواطنة المدنية في فرنسا او ألمانيا مثلاً، او في كندا او استراليا او السويد أو غيرها من الدول التي تطبق على أرضها دساتيرها، وقوانينها بشفافية وروح عالية من المسؤولية الوطنية والقومية، نجد أن السلوك الوطني والقومي لمواطنيها، متأصّل في نفوسهم.
اما المواطن في الدولة الطائفية، عندما يشعر أن تمييزاً يمارس بينه وبين غيره، ويطبّق عمداً، وأنّ الدولة والقيّمين عليها، يقرّبون المحظوظين، والانتهازيين، والوصوليين، والفاسدين، يلجأ عندها المواطن الى رحاب طائفته، حيث تنمو في داخله النزعة الطائفية، التي يجد فيها الملاذ والأمان لتحصيل حقوقه، من دون أن يدري المواطن المغفل، ان طائفته هي جزء من منظومة حكم تضمّ كلّ الطوائف، ضالعة في كلّ كبيرة وصغيرة. وأنّ ما يعانيه، هو نتيجة تحالف المنظومة السياسية مع المنظومة الطائفية، ليمنع أيّ تغيير وإصلاح يحدّ من نفوذها وهيمنتها على الشأن العام والخاص، ويقلّص من امتيازاتها ومكاسبها.
حان الأوان ليعرف المواطن الحر، أين تكمن العلة ويكمن الخلل…. هل المنظومة السياسية والمنظومة الطائفية على استعداد للتخلّي عن نفوذهما، ومكتسباتهما، وحضورهما المؤثر والمهيمن على أحوال البلاد والعباد؟! مطلقاً! وهل تتيح المنظومة الطائفيّة الفرصة، لبناء دولة متماسكة تليق بوطن وشعب، وترضى أن تبتعد عن مسرح نفوذها، وهيمنتها، وتدخلها، وتأثيرها على كلّ صغيرة وكبيرة؟!
كيف يمكن الحفاظ على وطن موحّد، وشعب متماسك، في ظلّ التفاوت والغبن وأكلة الجبن، وتقاسم الحصص والسياسات الجائرة، والسلوك والنهج المتعمد، لأرباب المنظومتين السياسية والطائفية، الذي أوجد الهوة العميقة بين المناطق والطوائف، ضارباً عرض الحائط، الإنماء المتوازن على مساحة البلد كله، وعابثاً بحقوق شريحة كبيرة من أبناء شعبه؟ كيف يمكن الحفاظ على وحدة الصف والهدف، لشعب كالشعب اللبناني، عندما نجد التمييز بين المناطق والطوائف، على الصعيد المعيشي والاجتماعي، والتعليمي، والخدمي، وسوء البنى التحتية والمرافق الصحيّة وغيرها؟! كيف يمكن دمج الشعب الواحد في بلد صغير مساحته 10452 كلم2ـ مع لحظ كلم2 لسوليدير ـ عندما يكون الاختلاط الاجتماعي والثقافي والسياحي والنفسي، بعيداً بين منطقة وأخرى؟! وهنا أتساءل! كم هي نسبة المواطنين المتواجدين في عكار الذين يعرفون الجنوب، والعكس أيضاً؟! وكم هي نسبة المواطنين في الهرمل أو بعلبك أو طرابلس أو كسروان أو الجنوب أو الكورة أو زحلة أو الشوف أو الجبل أو الضاحية، الذين زاروا المناطق اللبنانية الأخرى؟! هل كتب على اللبنانيين أن يعيشوا في غيتوات منعزلة فكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، وسياسياً، وسياحياً، وخدمياً، في حين أنّ السياسيين والروحيين لا يتركون مناسبة، حتى يغدقوا على الشعب المضلل المسكين، خطاباتهم ومواعظهم التي تؤكد على حرصهم الشديد على الوحدة الوطنية، والعيش المشترك! كيف يمكن بناء الوطن الواحد، عندما نجد المسؤول السياسي او الروحي لا يهتمّ إلا بمنطقته وطائفته، وكأنّ بقية الطوائف والمناطق موجودة على كوكب آخر؟! هل يميّز المسؤول الفرنسي في سياساته الوطنية والتنموية بين باريس ومرسيليا أو بوردو مثلاً؟! وهل يميّز المسؤول الكندي بين مونريال وتورونتو؟! أو الألماني أو الأميركي أو الإيراني أو الروسي أو الياباني، بين منطقة وأخرى في بلده؟! لا يمكن بناء لبنان في ظلّ عقلية طائفية وسياسية فاسدة، جعلت من لبنان الأرض والشعب، مجموعة من الإقطاعيّات الهزيلة الصغيرة، والإمارات العائليّة المستنسخة، والغيتوات المنعزلة عن بعضها البعض، تغيب عنها المصلحة المشتركة، والمواطنية الصالحة، والقومية الجامعة، والهدف المشترك، والرؤية الواضحة، ما جعل لبنان يغرق في مستنقعه ويتخبّط باستمرار في مشاكله الداخلية، من دون أن يستطيع التوصل الى حلول جذرية لها. فمداواة أمراض أزماته المستعصية لا تُجريها المنظومة السياسية، وللأسف، إلا بالمسكنات التي لا تشفي ولا تزيل المرض العضال.
عندما يحصل اللبناني على حقوقه المشروعة من خلال تطبيق القانون، بمعزل عن انتمائه الطائفي او العقائدي، فلن يفكر بعد ذلك، بعقلية طائفية بغيضة، وحساسية مفرطة… ليلجأ الى طائفته ويحتمي بها…
هل فكر اللبناني يوماً، الذي يعيش في دول أوروبا وأستراليا والأميركيتين، بالتعاطي مع الدولة والشعب من خلال الانتماء والمفهوم الديني والطائفي؟! أم أنه يدرك جيداً انه ينتمي الى بلد له فيه من حقوق وعليه موجبات؟! لكن الأمر في لبنان، ومن سوء حظ اللبنانيين، يختلف في الشكل والأساس، اذ انّ تحالف السلطة الزمنية والروحية، يستميت في الدفاع عن مصالحه ومكتسباته، ولن يتخلى عن امتيازاته بسهولة، طالما أنّ المنظومة السياسية الحاكمة، تتلطى وتحتمي حين تدعو الحاجة، بالسلطة الروحية، كما انّ المنظومة الروحية تلجأ عند الضرورة، الى السلطة السياسية، لتستقوي بها وتستمدّ منها نفوذها، لما توفره لها من غطاء ودعم وتأييد.
هما إذن، منظومتان ترتبطان ببعضهما البعض، فإنْ قويت إحداهما قويت الأخرى، وإنْ ضعفت إحداهما ضعفت الأخرى. تلازمهما الضروري يحافظ على استمراريتهما. ولا مصلحة للمنظومتين أن يتفكك النظام الطائفي، لأنّ تفككه سيقضي حتماً على نفوذهما وامتيازاتهما، وإنْ تعالت أصواتهما ودعواتهما من آن إلى آخر، للمطالبة بإلغاء الطائفية، حيث تصبّ هذه الدعوات في سوق المزايدات السياسية، والضحك على الناس، لتعكس الصورة البشعة للبازار السياسي الذي يعيشه لبنان، منذ استقلاله وحتى اليوم.
لو كان هناك فعلاً من نيات طيبة، ورؤية واضحة، وإرادة سليمة، ومسؤولين على مستوى المهامّ الوطنية الموكولة إليهم، لفعلوا على الفور ما يطلبه الشعب، ويحتاج إليه… لكنهم يصرّون على رفض التغيير، لأنّ الإصلاح والحوكمة الرشيدة، تتعارض في الصميم مع مصالحهم، ومكتسباتهم وامتيازاتهم الواسعة، التي تتعارض بدورها مع الحقوق الأساسية للمواطنين ومطالبهم العادلة. ولذلك يُصرّون على إبقاء الوضع والنظام الطائفي القبيح على ما هو عليه. لكن أثناء الأزمات، وعندما يتحرّك الغاضبون ضدّ الطبقة السياسية الفاسدة، ويثور الجائعون والمهمّشون والمسحوقون ضدّ النظام والفساد، تنبري فجأة المنظومة السياسية والطائفية، في وجه المواطنين، لتجذب كلّ مواطن من رعيتها اليها، تمتصّ نقمته، بعد أن تعيده إلى حظيرتها الطائفية، التي هي مقبرة لحقوق الشعب ومطالبه ومستقبله.
إنّ التخلص نهائياً من النظام الطائفي، والإطاحة به، يبدأ بمنظومة الإقطاع السياسي والمالي والإعلامي، فما ان تتفكك هذه المنظومة، يسهل بعدها وضع حدّ للمنظومة الطائفية والتفلّت من قبضتها، ومن تخويفها الدائم لرعاياها وأتباعها، من النتائج السلبية التي ستقع عليهم في حال تراجع مكانتها وسلطتها وسطوتها.
ومن العيوب الكبيرة للنظام الطائفي، أنه يفتت النسيج الوطني، والمفهوم القومي الواحد، بمفاهيمه الثابتة حيال قضايا مصيرية ترتبط بالوطن. فهذا النظام، يشوّه فكر الكثيرين، بحيث إنه لا يجعل المواطن يميّز بين العدو والصديق، بين المقاوم والعميل، بين الحليف والمحتلّ، بين المؤازر والخصم.
لا تغيير في لبنان، من دون أن يعيد المواطن الحر تهذيب تفكيره من جديد، ويعرف حقيقة الأمور كما هي، وبكلّ وعي وشفافية، ويعرف جيداً مَن يبيعه ويشتريه، ويضحّي به حين تدعو الحاجة على مذبح مصالحها وامتيازاتها.
الكلمة والقرار الفصل للمواطن وحده… فمتى يستعيد وعيه وبصيرته وقراره الحر؟!
إنه أساس التغيير، إذا ما أراد فعلاً نظاماً مدنياً، بعيداً عن الطائفية وتجارها، من سياسيين وروحيين، أوصلوا البلد الى الحضيض، وداسوا على طريق السلطة والمكاسب، كلّ القيم الروحية والإنسانية، ليحيوا هم، ويحتضر الوطن، ويموت الشعب.
*وزير الخارجية الأسبق.
(البناء)