الجعجعة لترامب والطّحن للصين.. عبد الباري عطوان
رأي اليوم
التحدّي الأكبر الذي يُواجِه الولايات المتحدة الأمريكيّة هذه الأيّام ليس فيروس كورونا وانعِكاساته على الاقتصاد الأمريكيّ، وإنّما فيروس أكبر وأكثر خطورةً اسمه الصين، لأنّه يشكّل تهديدًا وجوديًّا للعظمة الأمريكيّة، وعُملتها الوطنيّة (الدّولار) الذي يُشكِّل العمود الفقريّ للنظام الماليّ العالميّ مُنذ 75 عامًا، ويُواجه حاليًّا “أجندات” مُتعدِّدة لإنهاء هيمنته وبأسرعِ وقتٍ مُمكن.
صحيح أنّ فيروس كورونا تسبّب حتّى الآن في إصابة 1.6 مِليون أمريكي، ومِئة ألف حالة وفاة، وهذه الأرقام مرشّحةٌ للتّصاعد بشكلٍ كبيرٍ في حال إقدام الرئيس ترامب على تنفيذ خططه برفع أو تخفيف الإغلاق، ولكن التّهديد الأكبر يأتِي من الصين وعُملتها الجديدة (اليوان الرقمي) الذي دخل ميدان التّداول حاليًّا في أربع ولاياتٍ صينيّةٍ بعد خمس سنوات من البحث والتّطوير، وباتت الخطط جاهزةً لـ”تدويله” وتحويله إلى عملة احتِياط عالميّة مِثل الدّولار تمامًا، إنْ لم يَكُن أقوى.
شي جين بينغ الزعيم الصيني الدّاهية الذي تقدّم لعُضويّة الحزب الشيوعي الصيني عشر مرّات وقُوبِل بالرّفض، ولم ينجَح إلا في المرّة الحادية عشرة، هذا الرّجل جعل من الذّكاء الاصطِناعي وتقنيات الجيل الخامس تكنولوجيًّا، جوهر مخطّطاته الاستراتيجيّة لتطوير بُنى تحتيّة تكنولوجيّة جديدة على أوسع نِطاقٍ مُمكنٍ، وبات يحصد ثِمار هذه الاستراتيجيّة هذه الأيّام.
أهميّة العُملة الرقميّة الصينيّة الجديدة “RMB ديجيتال” تستمد قوّتها من أمرين أساسيين، الأوّل هو تجنّب، وإفشال أيّ عُقوبات اقتصاديّة أمريكيّة في المُستقبل، والثّاني إعطائها الصين قوّةً جيوسياسيّةً هائلةً، حيثُ بدأت الشّركات التكنولوجيّة الصينيّة مِثل “علي بابا” وتنست” تنتشر في إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة، ولاختِلافها عن البطاقات الائتمانيّة من حيثُ تجاوز وِساطة البُنوك، وتحقيق التّسوية الماليّة للمُعاملات على الفور عبر الهاتف الذكيّ، وبلغ حجم المُعاملات التي جرى تسديدها بالهاتف المحمول في الصّين عام 2018 حواليّ 41.5 تريليون دولار، حسب وكالة بلومبرغ.
الصين كانت أوّل دولة تتلقّى ضربةَ الكورونا، وأوّل دولة تمتصّها وتتعافى مِنها بزمنٍ قياسيٍّ، وكفاءةٍ طبيّةٍ وإداريّةٍ عاليةٍ، واليوم السبت تُعلِن وهي التي يَبلُغ تِعدادها 1.4 مِليار نسمة، عدم تسجيل إصابة واحدة بالفيروس، حتى عندما بلغ الوباء ذروته في إقليم ووهان ووصلت عدد الإصابات 80 ألف حالةً كان عدد الوفيّات لا يزيد عن 4634، وهذا رقمٌ مُتواضعٌ جدًّا بالمُقارنة مع الإصابات الأمريكيّة 1.6 مِليون والوفيّات 100 ألف، والبريطانيّة والإيطاليّة والفِرنسيّة أيضًا.
الأهم من كُل هذا وذاك أنّ الاقتصاد الصيني بات أوّل اقتِصاد يتعافى كُلِّيًّا من آثار الكورونا، وهُناك 177 ناقلة نفط عِملاقة تتحرّك نحو الموانِئ الصينيّة حاليًّا لتفريغ حُمولتها، في ظِل تصاعد قلق أوروبي من توسّع الصين في شِراء الشّركات الأوروبيّة العِملاقة وبأسعارٍ زهيدةٍ لانخِفاض أسعار أسهمها بسبب الكورونا حتى أنّ أحد الاقتِصاديين الأوروبيين حذّر من أنّها تستعد لشِراء نِصف العالم بصَمتٍ ودون أيّ ضجيج.
وإذا كان فيروس كورونا كشف ضعف زُعماء العالم، وفضَح انخِفاض قُدراتهم الإداريّة إلى درجاتٍ متدنيّة، فإنّه أظهر في الوقتِ نفسه قوّة وصلابة، وبُعد نَظر، القِيادة الصينيّة بالمُقارنة مع نظيرتها الأمريكيّة “ترامب” المُرتبكِة والمتدنّية وفاقِدة الرّؤيا، فإذا صحّت التنّبؤات لكِبار الاقتصاديين التي تقول بأنّ الاقتِصاد الأمريكيّ قد يحتاج لعُقودٍ للتّعافي من أزماته الحاليّة بسبب فيروس الكورونا فإنّ هذا يعود إلى ضعف قِيادته واقتِصادها الحاليّة للحُلول والمُبادرات الفاعِلة والسّريعة.
آنجيلا ميركل مُستشارة ألمانيا كانت من أبرز القِيادات التي نجحت في اختبار كورونا، ووصلت شعبيّتها إلى معدّلاتٍ غير مسبوقة، وباتت على بُعد أمتارٍ من الفوز بولايةٍ خامسةٍ، بينما سقَط في الاختِبار الرئيس ترامب وتابِعه البريطاني بوريس جونسون، والشّيء نفسه يُقال عن إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، وقائمة الفاشِلين طويلةٌ جدًّا على أيّ حال.
ربّما لا تُنهي الصين هيمنة الدّولار فورًا، ولكنّها بدأت فِعلًا في إضعافِه وهيمنته بشكلٍ مُتدرّجٍ تمهيدًا لإزالته من عرشه في غُضون خمس سنوات إن لم يَكُن أقل، ولا يُمكن إغفال مُبالغة الإدارة الأمريكيّة في استِخدام العُقوبات الاقتصاديّة يمينًا ويسارًا في مُساعدة الصين لتحقيق هذا الإنجاز، وتراجع قوّة الاقتِصاد الأمريكيّ، وارتِفاع مُعدّلات البِطالة وغِياب الرّيادة في براءات الاختِراع التي جعلت من الاقتصاد الأمريكيّ الأقوى عالميًّا.
نعترف أنّنا لا نَكِنُّ الكثير من الودّ لأمريكا وإدارتها لأنّ مُعظم كوارثنا كعرب ومُسلمين كانت تَقِف خلفها أو مِن صُنع سياسيّيها، ولكن ما نكتبه هُنا ليس “تمنّيات”، وإنّما واقعٌ له وجوده على الأرض، ثمّ ما الخطأ في تسليط الأضواء عليه، وفتح سرادق العزاء لاستِقبال المُعزّين بقُرب نِهاية هيمنة الدولار الأمريكيّ ومعه الهيمنة الاقتصاديّة الأمريكيّة، وصُعود قِوى أُخرى قد تكون الأقرب إلينا كعربٍ ومُسلمين، والأكثر تَفهُّمًا لقضايانا وطُموحاتنا السياسيّة والاقتصاديّة، فأمريكا تنهب ثرواتنا، وتحلب أموال بعض السذّج منّا، بينما تشتري الصين خمسة ملايين برميل من نِفطنا، أيّ أنّها تضخ الأموال في شرايين اقتِصادنا، ونستغرب وجود مَن ينحازون من أبناء جِلدتنا لأمريكا ترامب ويكنّون كُل أنواع الكراهيّة للصين، إنّها العُبوديّة للغرب صاحِب التّاريخ العميق في الاستِعمار.. وللِه في خَلقهِ شُؤون.