ما بعد كورونا الدكتورة بثينة شعبان
يتساءل كثيرون عن معاني تصريحات وتجاذبات وتحرّكات تصدر بكثافة هذه الأيام عن القوى الثلاثة التي تعتلي سلّم القطبية الدولية؛ الولايات المتحدة والصين وروسيا، ويحاولون أن يفسّروا كلّاً منها على حدى، بينما التفسير الأهمّ يأتي من خلال الوصل بين النقاط وفهم التقاطعات بين الأحداث والأهداف. علّ الحقيقة الوحيدة الثابتة اليوم هي أنّ عالم 2020 قد تغيّر بشكل شبه كلّي عن العالم الذي عشناه في 2019، وللذين يظنّون أنّ هذا التغيير مؤقت، أقول إنه مؤقت فقط إلى أن نعتاد عليه ليصبح دائماً،
وإنّ الأجيال الفتية ستراه في المستقبل كمخاض شكّل لها العالم الذي تعيش فيه. وحتى ما بدا بريئاً ومؤقتاً في البداية، ومنذ أشهر قليلة، أخذ اليوم يلقي على الأقلّ أسئلة عن كيفية التأقلم معه في حال استمراره، وهو الاحتمال المرجّح. وشمل هذا التغيير كلّ أنواع العلاقات الاجتماعية والدولية بالإضافة إلى أدوات القوة والسيطرة، والأغلب أنّ الدول العظمى بدأت بمراكمة أوراق القوة لها استعداداً للمفاوضات التي لا شكّ أنها قادمة من أجل الاتفاق على شكل العالم الجديد. فالحرب النووية لا يمكن أن تحدث لأنها سوف تعني نهاية كوكب الأرض، وما تصريحات الولايات المتحدة بالاستعداد لنشر أسلحة نووية في أوروبا سوى إظهار أوراق تمتلكها في وجه الخصمين الروسي والصيني اللذين يفتقران إلى هذه الورقة. وفي متابعة للتصريحات الصينية والروسية وتحرّكات البلدين الإقليمية والدولية، نلاحظ أنّ التجاذبات بينهما وبين الولايات المتحدة مستمرّة ويومية، والهدف ليس نشوب حرب، وإنما المسار هو نوع من أنواع الحرب الباردة، ولكن بأساليب جديدة سوف تفضي في النهاية إلى تقاسم النفوذ والاتفاق على شكل العالم الجديد. هذه المرحلة من الحرب الباردة قد تستغرق سنوات، ولكن بوادرها تشي بأنّ الأطراف الثلاثة يدركون أنه لا يمكن لأيّ طرف إزاحة الآخر من حلبة السباق، ولكنه يمكن له توجيه الضربات المباشرة وغير المباشرة كي يزيد من عدد النقاط لصالحه. فالصين وروسيا أخذتا المبادرة في زمن كورونا لمساعدة أكثر من مائة دولة بالتجهيزات والمعدّات الطبية بما فيها دول أوروبية، وحتى الولايات المتحدة ذاتها، وهذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها هاتان الدولتان بمظهر القوى القادرة على مساعدة الآخرين، بينما أبدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عجزاً غير مسبوق حتى بمساعدة نفسها في مواجهة التحدّي الناجم عن هذا الوباء. وفي إعلان حالة الإغلاق في روسيا صرّح الرئيس بوتين أنّ كلّ العاملين سوف يستمرّون باستلام أجورهم خلال الإغلاق، كما أغدق أجوراً إضافية على الكوادر الطبية، ممّا جنّب روسيا أزمة اجتماعية. كما أنّ الصين لم تسرّح أيّاً من عمالها وموظفيها، بل على العكس من ذلك، كان الغذاء اليومي يصل مجاناً لكلّ المناطق المحجورة، بينما وصل عدد العاطلين عن العمل اليوم في الولايات المتحدة 33.2 مليون، والأمر في الدول الأوروبية لا يختلف كثيراً عن الولايات المتحدة؛ حيث يُقدّر أنّ 30% من الناس قد خسروا أعمالهم بشكل كلّي أو جزئي، مما يعني حتمية وقوع أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة في الغرب قد تتجاوز أبعادها الأزمات التي حلّت بهم خلال القرن الماضي. ولا شكّ أنّ ارتدادات هذا الواقع الاقتصادي الجديد سوف تشكّل عاملاً هاماً في نقاط القوّة والضعف في عالم ما بعد كورونا. في هذا السياق نقرأ تصريحات وزير الخارجية الروسي، والتصريحات الصينية الداعمة لسورية وإيران وفنزويلا في وجه العقوبات الوحشية الأمريكية التي وصلت إلى حدّ المحاولات المباشرة للإطاحة بحكومة دولة منتخبة ذات سيادة، وهي جمهورية فنزويلا البوليفارية. ويمكن قراءة محاولات الولايات المتحدة الفاشلة لتنصيب حكومة عميلة لها في فنزويلا على أنها بالإضافة إلى كونها انتهاك صارخ للشرعية الدولية، فهي أيضاً أظهرت عجز الولايات المتحدة السياسي من جهة، واستماتتها كي تضع يدها على النفط والغاز الفنزويلي كي تحلّ أزمة اقتصادية تعلم أنها قادمة لا محالة وفي القريب العاجل. ولا شكّ أنّ الصين وروسيا أحبطتا أيّ محاولة أمريكية لاستخدام مجلس الأمن أو الأمم المتحدة كأداة لتحقيق أطماعها وأهدافها في فنزويلا. من هذا المنظور أقرأ تصريحات دافيد فريدمان لدى الكيان الغاصب، والتي قال بها: «إنّ الدولة الفلسطينية ستقوم فقط عندما يصبح الفلسطينيون كنديين»، وإذا كان يعتبر أن تصريحه هذا دليل قوة، فنحن نقرؤه على أنه دليل إفلاس لأنه تجرّؤ على حقوق شعب اعترفت بها حتى دولته أمريكا في كلّ قرارات مجلس الأمن، وما التنصّل من هذه المسؤولية الأخلاقية تجاه قضية محقّة إلا حلقة من حلقات الانحدار السياسي والأخلاقي للولايات المتحدة، واللجوء إلى شريعة الغاب بالاعتماد على القوة المفرطة في مواجهة حقوق لسكان أصليين لن يستسلموا لظلم واحتلال وقهر مهما حاولت تمظهرات القوة أن تُحبطهم أو تُدخل اليأس في قلوبهم. وما سحب بعض بطاريات باتريوت من السعودية وسيناء إلّا وجهاً آخر من أوجه الظهور بمظهر القوي المطمئن لحضوره ودوره؛ إذ لا أحد يعلم كم تُشكّل البطاريات المسحوبة من أعداد البطاريات المتواجدة، وهل سيتمّ استبدالها بأحدث منها أم لا. والأمر الآخر أنه وبعد هرولة بعض العرب للتطبيع مع العدوّ الصهيوني، وإنتاج مسلسلات تُري عقدتهم من الصهاينة وأنهم يستجدون واشنطن هذه المرة من خلال وسيط يحتلّ أرضهم ويمارس عليهم أساليب الإذلال، فلماذا يتوجّسون منهم اليوم وقد شغلوهم بحرب ظالمة ضدّ إخوانهم في سورية واليمن وليبيا، واستنزفوا بذلك ثرواتهم ومكانتهم الإقليمية، وأقنعوهم أنّ فلسطين كانت عبئاً عليهم، وأنهم سوف يرفلون بثياب التقدم والازدهار بعد التخلي عن فلسطين، غير مدركين أنّ المخطط الذي وضعه الأعداء لفلسطين هو ذاته الذي سوف يتمّ تطبيقه عليهم مع بعض التعديلات هنا وهناك. ولكنّ الولايات المتحدة سوف تستخدم احتلالها للعراق وما آلت إليه الأمور اليوم هناك، وقصفها لليبيا وما وصلت إليه الأمور هناك، وضغوطها لسنوات على السودان والتي أثمرت بتطبيع مع العدوّ الصهيوني وهو الهدف من البداية، والحرب على اليمن لتستخدمها في مرحلة ما بعد كورونا بأنها هي التي تمتلك الأوراق في هذه المنطقة وأنّ أحداً لا يمكن أن ينافسها في الاطمئنان إلى أدواتها، وإلى كلّ ما أنجزته من مصادرة قرارات مستقلّة لتأتمر بأوامرها ولو من خلال أدوات محلية. والمجال الآخر الذي يتنافسون فيه هو المجال الطبي والتقني والمعلوماتي، ولا شكّ أنّ لقاحات كورونا ستعتبر نقطة قوة هامة لمن يبادر بها ويمتلك الساحة العالمية لاستخدامها. في عالم ما بعد كورونا سنشهد سيناريوهات شبيهة بما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث يتقاسم المنتصرون النفوذ، ويتفاوضون على شكل هذه العالم والأسس التي سوف يتمّ إرساؤها سواء على مستوى المنظمات والهيئات، أو على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية. الكبار يتصارعون بطرق وأساليب جديدة ولأهداف مستقبلية مختلفة، والصغار ينتظرون ليكتشفوا في أيّ عالم سوف يجدون أنفسهم لاحقاً.