المبادرات الأهلية والمسؤوليات الوطنية
غالب قنديل
من غير المنطقي الرهان على احتواء النتائج الاجتماعية الخطيرة والشاملة للكارثة التي نعيش في رحابها عن طريق مبادرات “المحسنين وفاعلي الخير” والمتبرعين المشكورة جهودهم وإنسانيتهم جميعا في تخفيف آلام المحنة والتحية تستحق لجميع من يحتفظون بما تبقى من نخوة إنسانية بعيدة عن الأغراض السياسية التي حولت اللبنانيين جماعيا إلى متسولين وعاملتهم بامتهان كرامتهم الإنسانية في مواسم متلاحقة من الخضات والحروب والانتخابات التي شهدت باستمرار حملات توزيع مساعدات عينية ومالية في جميع المناطق اللبنانية وعبدت طرق الزعامة السياسية امام العديد من المتمولين الذين “رشوا” على الفقراء القليل مما جمعوه في حصتهم من الصفقات والمشاريع.
أولا التدهور الخطير والواسع في اوضاع الشرائح الوسطى والفقيرة في لبنان سبق أزمة الكورونا التي راكمت المزيد من الأضرار بمفاعيل الركود والتوقف التام للنشاط الاقتصادي بمعظم مظاهره ومجالاته وسرع في ظهور المبادرات الإيجابية المنظمة التي تخفف من وجع العوز على أعداد ضخمة متزايدة من العائلات وهو لايعفي السلطة السياسية أي الحكومة من مسؤولياتها فهي المرجعية المعنية باتخاذ القرارات التي تتوخى إعادة تنظيم الإمكانات والقدرات الوطنية بما يعالج المشاكل الاجتماعية الخطيرة ويحشد الموارد اللازمة بروحية التعامل مع ظرف استثنائي غير مسبوق يفرض على السلطات العامة اتخاذ تدابير غير مألوفة في الزمن العادي وما يحكى عن خطر الجوع لا يمكن صده بالتعويل على المبادرات الإنسانية السامية وحدها أو باكتفاء الحكومة بالبحث في تنظيم الإعانات التي تسطيع توفيرها من اعتمادات مع الخزينة العامة الفارغة والمستنزفة.
ثانيا يجب توجيه الأنظار إلى مواضع الثروات والشبهات وبالذات إلى مالكي المصارف وسائر جامعي المليارات من مزايا السطة ومنافعها من عقود وتعهدات مولتها الخزينة باسم اللبنانيين طيلة الثلاثين عاما الماضية وفيها ما فيها وهنا يستدعي الأمر تحويل التكافل الاجتماعي إلى ضريبة ملزمة أكبر من أي تبرع محتمل يجود به هؤلاء الذين تربحوا على حساب الناس والبلد ويفترض شمول ثروات كل من تولى المسؤولية ومن استثمر في تعاقد مع الوزارات والمؤسسات العامة بما في ذلك شركات المقاولات والإنشاءات والتعهدات وجمع النفايات والمحروقات وكبار التجار من أصحاب الوكالات الاحتكارية ولا ينبغي ان تعف المطالبة عن أي كان خصوصا من هربوا اموالهم عشية الانهيارفالكارثة تبيح المصادرة والتأميم وتوجب التعامل الحازم.
ثالثا إن جميع الأوقاف الدينية في دائرة السؤال عن مخزوناتها المالية وثرواتها وممتلكاتها وسائر مرجعيات الطوائف امام تحدي التعامل الأخلاقي والإنساني مع الكارثة الشاملة التي تلغي جميع الفوارق المادية والمعنوية وتجتاز السدود الفاصلة بين الناس المتساوين امام الخالق الواحد كما يبشر رجال الدين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم الكريمة وحقيقة الموت والحياة والكرامة الإنسانية لاطبقية فيها ولا تراتب ولاتمييز فهي في جوهر الوجود الإنساني وبالتالي ما كنز باسم الله او باسم أي معتقد ديني او سياسي هو ملك للناس جميعا في زمن الضيق والشدة تستحق عليه صفة المورد العام الذي يجب ان يكون متاحا لأي جهة عامة تتولى قيادة العمل لإنقاذ البلاد ولاحتواء الكارثة ومساعدة اللبنانيين في استعادة الحق بالحياة بكرامة بما يتخطى يوميات الإغاثة الطارئة والمعونة العاجلة والضرورية والتي تسوغ للحكومة مصادرة ما تراه مناسبا لتمويل خطة وطنية ما تزال غائبة لصالح المبادرات الأهلية والحزبية المتعددة وبعضها محترم وموثوق والبعض الاخر ما يزال بمثابة رفع العتب والتوظيف السياسي الضيق والفئوي المريض.
رابعا يتضح لمن يتابع ولمن يفهم مغزى ما يعيشه العالم من اضطراب بعد تفاعل مضاعفات الانتشار الوبائي واندماجها بمقدمات الركود العام الذي سبقها ان التعويل على المعونات الخارجية بات شبه مستحيل ليس للأسباب السياسية المعروفة بل لأن ما يجري في العالم اليوم يغير جداول اعمال سائر الحكومات ويبدل في الأولويات ونستطيع الاستنتاج ببساطة ان احدا في المنطقة والعالم لايملك الوقت الكافي للاستماع إلى أي استغاثة لبنانية فالحكومات منصرفة إلى هموم بلدانها وشعوبها الخاصة والمضاعفات ما تزال في بداية تدحرجها وبالتأكيد لن يكون إسعاف اللبنانيين ولا إعانتهم اولوية عند أي كان والاجدى هو التفكير في كيفية استخدام الموارد الوطنية لمجابهة الأزمة الخطيرة ونتائجها والموارد الوطنية هي المجموع المتاح من الأموال في الداخل والخارج والموجودات والممتلكات بغض النظر عن هويات المالكين جماعات وفرادى اما كيفية التعامل مع البعد الحقوقي فهو امر يستدعي جسارة وحزما في ظرف لا يمهل ويهدد الناس كلهم بالعوز والمهانة.