«التفاوض مع الأسد».. لحن أوروبي قد يعزف في جنيف وسيم ابراهيم
في صالة الاجتماع المغلق، كان من الصعب على وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إخفاء امتعاضه، وهو يصغي بانتباه إلى ما يقوله نظراؤه الأوروبيون حول سوريا. الكلام المغلف بطبقات من الديبلوماسية لم يجعله يخطئ المقصد الأخير الذي يقف خلف ما يقال. حينما انتقل الكلام إليه، قال لهم، مباشرة ومن الآخر، إنه يسمع «تنغيماً» لا يعجبه إطلاقاً، خصوصاً أنه يعتبر أن الحجج التي سمعها تقول في النهاية إنه «يجب الحديث» مع الرئيس السوري بشار الأسد.
حينها كان النقاش يدور حول خطط مكافحة الارهاب، بداية هذا العام، في الاجتماع الأول لوزراء الخارجية منذ اعتداءات باريس. بعد شهرين لم يعد الوزير الفرنسي بحاجة إلى قراءة ما بين السطور، فما سماه «تنغيماً» هو الآن لحن واضح، تعزفه الغالبية العظمى من الأوركسترا الأوروبية.
في هذا السياق، يقول ديبلوماسي أوروبي رفيع المستوى لـ «السفير» إن «ضرورة الحوار مع الأسد هو موقف تتبناه، بشكل أو بآخر، 26 دولة أوروبية، باستثناء دولتين تعارضان ذلك»، قبل أن يبين أن الدولتين هما بريطانيا وفرنسا.
لم يكن الأمر بحاجة إلى إشارات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في مقابلته التلفزيونية مؤخراً، حينما تحدث بدوره عن الحاجة للتفاوض مع الأسد. الديبلوماسي الأوروبي لم يجد أي حاجة لسيل التوضيحات التي أعقبت التصريح الأميركي، أو الاستدراك بأن «الموقف لم يتغير»، فما قاله كيري برأيه بات يمثل «تحولاً صار واضحاً الآن» تجاه الصراع السوري.
حينما سألناه عن الخطوة «التالية» الممكنة، في سياق هذا التحول، شدد على أن جنيف ستكون المحطة الوحيدة لإظهاره. أوضح أنه «من المستحيل الآن دعوة ممثلين عن النظام السوري لحضور اجتماعات دولية يمثلون فيها الدولة»، قبل أن يلفت إلى أن «الخطوة التالية هي العودة إلى جنيف، والتحاور مع بعض العناصر الملائمة من نظام الأسد».
كل هذه الأمور لا يتحدث عنها بتاتاً الوزراء الأوروبيون في العلن. لكن بعض من يلتقيهم، ويستمع إليهم خلف الأبواب المغلقة، لا يبدو متحرجّا من التصريح بموقفهم الجديد. في هذا المنحى، يقول رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز، السياسي الألماني المعروف، رداً على سؤال طرحته «السفير» إن ما ظهر للعلن «ليس فقط موقف كيري»، قبل أن يضيف «بل هناك وزراء خارجية آخرون يفكرون بمفاوضات محتملة مع الأسد».
يضع شولتز القضية في سياقها الأوسع، موضحاً أن «المسألة في سوريا هي أننا نحتاج لجلوس جميع القوى المعنية حول الطاولة لإيجاد حل، وإذا هناك مستقبل للسيد الأسد في سوريا فهي مسألة (يتم الاتفاق حولها) ضمن المفاوضات بين جميع المشاركين مع إقصاء الارهابيين».
حينما أدلى كيري بتصريحه الأخير، ومع حملة التوضيح التي أعقبته، تذكر كثيرون ما حدث صيف 2013، عندما أعلن أن النظام السوري يمكنه أن ينجو من الضربات الجوية، بعد مقتل مئات السوريين بالسلاح الكيميائي في غوطة دمشق، في حالة سلم أسلحته الكيميائية. وبرغم معاجلة الإدارة الاميركية للتوضيح بأن هذا لا يمثل الموقف الرسمي، ولا يعدو كونه اجتهاداً من وزير ردّ على سؤال صحافي، لكن بوادر الاتفاق الكيميائي ظهرت بعد ساعات قليلة.
هذه القصة يعرفها بحذافيرها دوغلاس فرانتز، مساعد كيري للشؤون العامة. يتذكر تماماً أين حصل ذلك ومن طرح السؤال بالاسم، مقراً بأن كلام وزيره لم يأت وقتها «من فراغ (بل) كان هذا في خلفية تفكيره»، بعدما تم التداول فيه سابقاً، قبل أن يستدرك «أعتقد أننا جميعاً كنا متفاجئين بسرعة موافقة الأسد على ذلك».
على أي حال، حينما طرحت «السفير» هذه المقارنة على فرانتز، قال إن الوزير كيري «سياسي نشيط» ويتحدث من خارج النصوص المعدّة، وهو ما يسبب أحياناً «الاجتزاء أو سوء الفهم». مع ذلك، لا يدَّعي فرانتز أن وزير الخارجية لم يقدّم طرحاً جديداً، بل يقول: «أعتقد أن كيري كان محقاً… نحتاج التفاوض مع الأسد، لكن هذا لا يعني أننا نريد مفاوضات تفضي إلى بقاء الأسد في السلطة». يكرر فرانتز هنا أن موقف الادارة الأميركية هو أن «الأسد عليه الرحيل ولا يمكن أن يحصل اتفاق من دون مغادرته»، قبل أن يستدرك «لكننا نعلم في الوقت ذاته أننا نحتاج إليه في هذه المحادثات التي نحتاج إلى مواصلتها في جنيف».
مقاربات كهذه كانت ظهرت بأشكال أخرى في بروكسل. منها ما ورد على لسان وزيرة خارجية الاتحاد فدريكا موغريني، خلال مؤتمر صحافي الشهر الماضي. حينها لفتت إلى أنه برغم الحديث لسنوات عن أن «الأسد يجب أن يرحل» لكنه لا يزال «جزءاً من الواقع»، قبل أن تعتبر أنه من الأفضل «التعامل مع الواقع لتغييره»، بمعنى التعامل مع الأسد مع محاولة إخراجه من السلطة لاحقاً.
مجمل هذه الخلاصات، أوروبية كانت أم أميركية، تبدو أقرب إلى تخريجات تحاول تبرير انعطافة في الموقف من دمشق، ليس معروفاً إلى أين ستقود في النهاية. في هذا السياق، يقول مسؤول غربي رفيع المستوى لـ «السفير»، مشترطاً عدم كشف هويته، إن «تركيز الولايات المتحدة الآن هو الحرب على داعش، وليس الأسد، وما أعرفه أن هذا يغضب قسماً من الادراة الأميركية مثل الوزير كيري».
في الوقت ذاته، يقول سياسي أوروبي زار واشنطن مؤخراً إن «القضية ليست جديدة، الاهتمام الأميركي كان دائماً منصبَّاً على العراق ولم يظهروا اهتماماً كبيراً بسوريا»، موضحاً أن «تركيزهم الآن هو الحصول على شراكة جديدة مع إيران، ويحاولون إيجاد وضع أقل تأزماً في الدول المحيطة».
الانشغال الأوروبي بإيجاد المخارج يظهر في حديث بعض الديبلوماسيين، وبينهم من يشير إلى نجاح سوابق تاريخية يمكن الاقتداء بها. أحد الديبلوماسيين أمضى سنوات في دمشق، ويلفت خلال حديث إلى «السفير» إلى مثال الزعيم الصربي السابق، سلوبودان ميلوسوفيتش، قبل أن يقول «أفسحنا المجال أمامه لثلاث سنوات ثم سقط نتيجة التسوية، من دون ذلك لم نكن نعرف كيف كان الوضع ليكون في كوسوفو».
لم يسقط ميلوسوفيتش نتيجة قصف الحلف الأطسي المكثف لقواته، خلال الحرب في العام 1999، بما في ذلك قصف العاصمة بلغراد، بل خرج بعد خسارته الانتخابات في العام 2000، قبل أن تسلمه السلطات الجديدة إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي العام التالي، حيث مات داخل زنزانته بعد سنوات.
ما يجري الآن يجعل الديبلوماسي الأوروبي يلفت إلى ما يعتبره «الخطأ» الذي وقع فيه الأوروبيون، خلال تعاملهم مع الصراع السوري، موضحاً أنه «منذ البداية صنفنا الأمر أسود وأبيض، أخيار ضد أشرار، وهذا لم يترك لنا دوراً يمكن أن نلعبه، باستثناء دعم معارضة لدينا ما يكفي للشك في اعتدالها الآن»، مضيفاً «لقد تعامينا عن مشاكل الجهاديين برغم أن فرضية دورهم كانت موجودة من البداية».
لكن الموقف الفرنسي لا يزال متصلباً. فابيوس قال معلقاً على تصريحات كيري إن «الحل هو انتقال سياسي يجب أن يحافظ على مؤسسات النظام، وأن يدمج المعارضة في نفس الوقت»، مشدداً على أن «أي حل آخر يعيد إنتاج بشار الأسد سيكون هدية فضائحية لإرهابيي داعش».
الموقف الفرنسي والبريطاني كان محركاً أساسياً لإعلان الأوروبيين، في موقف مشترك، أن الأسد «لا يمكن أن يكون شريكاً في الحرب ضد داعش»، وهو ما ورد في إستراتيجيتهم التي أعلنوها أخيراً حول «سوريا والعراق وتهديد داعش».
مع ذلك، بعض الديبلوماسيين الأوروبيين يتحدث عن «فرصة» يمكن أن ينتجها الوصول إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني، ومنهم من يذكِّر بأن اتفاق «الطائف» أمكن إنجازه بعد الظروف الدولية التي تلت حرب الخليج الأولى.
هناك مسؤولون أوروبيون لا يخفون وجود تعويل على مناخ كهذا الآن. في هذا السياق، يقول وزير خارجية الدنمارك مارتن ليدغارد لـ «السفير» إن اتفاقاً مع إيران «ربما يمكِّننا من إشراكها بشكل إيجابي في العديد من الصراعات الجارية»، قبل أن يضيف أنه «حينما يتعلق الأمر بسوريا والعراق فنحن نحتاج إلى حكومات شاملة، ونحتاج الدعم من إيران لأنه من الصعب جداً إنجاز ذلك من دونها».
(السفير)