قراءة متأنّية لكلام السيد عن الحلفاء والأصدقاء: ناصر قنديل
– أثار كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن ضوابط التخاطب بين حزب الله والحلفاء والأصدقاء ردود أفعال متعدّدة، بين متحمّسين في بيئة المقاومة والحزب آلمهم كلام السيد عن الإحساس بالجرح، وبين خصوم أرادوا الشماتة والتشفي، فأخرج الفريقان كلام السيد عن سياقه وأهدافه. وهنا يجب البدء بتثبيت حقيقة سياسية حاكمة عنوانها، أن كلام السيد محسوب رغم البعد العاطفي والإنساني العالي المنسوب فيه، وكل حريص على البلد وعلى حركة المواجهة العربية مع المشروع الأميركي الإسرائيلي وامتداداته مدعوّ للتفكير ملياً قبل أن يأخذ راحته بالتعليق والكتابة، لينتبه أن المقاومة العربية التي يشكل حزب الله رأس حربتها ويشكل السيد نصرالله قائدها الأول، هي القيمة المضافة الوحيدة في زمن عربي كان سيحكمه عتاة الرجعية والتخلف والتبعية لولا هذه المقاومة، وأن مهابة المقاومة وسيدها جزء من موازين القوى التي صنعت التحوّل الكبير في تاريخنا الحديث، وأننا جميعاً من المحيطين بهذه المقاومة والمعجبين بتجربتها والمساندين لحركتها، لسنا مجرد أصحاب رأي بل بعض نتاج تجارب أخرى أدلت بدلوها في بئر المواجهة ذاتها، ولم تنجح في تحقيق ما حققته هذه المقاومة بفكرها ونهجها وقيادتها، ما استحق التعامل معها من تحت لا من فوق، وهذا بعض من مبادلتها للتواضع بالتواضع.
– لغة الاحترام الواجب في التخاطب لا تعني بالتأكيد الامتناع عن نقد التجربة، ولا عن نصحها، وإلا فقد كل مثقف مبرّر دوره، وفقدت السياسة معناها، وصار المطلوب التقديس والتصفيق، وهذا لن يخدم المقاومة، ولا مسارها، ولا هو ما طلبه السيد، الذي أكد الترحيب بالنقد والترحيب بالنصح، لكنه وضع لهما ضوابط تضمن فعالية النصح والنقد، بشروط الاحترام والامتناع عن التشكيك والتقيّد بأصول التخاطب بين أهل القضية الواحدة وأخوة الشراكة في المصير. فالكلام إن أراده أصحابه علنياً، عليهم أن ينتبهوا أنه يصل إلى بيئة المقاومة فيصيب ثقتها وثقافتها ويستنفر ردات فعلها، ويصل إلى خصومها وإلى أعدائها فيبنون عليه حساباتهم ويستخدمونه للنيل من المقاومة والتشكيك بها وبقوتها وحضورها وتماسك جبهتها، وأقلّ ما سيُقال، «شهد شاهد من أهله».
– بالمقابل، لا يمكن فصل ما جرى عن سياق القضية التي أثارته، وهي قضية القرار القضائي بإخلاء سبيل العميل عامر الفاخوري، وتهريبه من السفارة الأميركية وتباهي الرئيس الأميركي بالإنجاز، وما سببه ذلك من شعور بالضعف ترافقه مرارة المهانة، لكل البيئة الثقافية والشعبية المساندة للمقاومة، التي تنظر للمقاومة وحضورها بصورة أسطوريّة تتجاوز معادلات السياسة وموازين القوى المحيطة بكل قضية، بحيث لم يتخيّل أحد أن الذي جرى ممكن حدوثه دون أن تكون المقاومة وحزبها الأكبر في صورته، فارتبك الجميع وتشوّشت أفكارهم. ولعل الحزن الذي عبر عنه بيان حزب الله كان عاماً وشاملاً، بحيث كان الحزن الأهم هو الشعور بأن المقاومة يمكن أن تُستضعف أو تُستغفل في قضية تعنيها مباشرة وتمسّها في صميم التزامها، بحيث شعر البعض أن الحادثة تنتمي بكل فصولها لزمن ما قبل المقاومة وقوتها وثقل حضورها، وكان يتمنى لو انها كانت صفقة مع المقاومة، لأن في ذلك حكماً تحصيل لأثمان موازية تخدم قضية المقاومة وتحفظ تضحيات المقاومين ودماء الشهداء، كما هي حال كل عمليات التبادل التي أجرتها المقاومة من قبل وكانت موضع اعتزاز وافتخار.
– من المنطقي والطبيعي أن المقاومة تجري مراجعتها في ما جرى، وتسأل عبر مؤسساتها هل كان يمكن تفادي حدوث ما حدث، سواء عبر مراجعة فرص تعديل قانون العقوبات وإسقاط مرور الزمن عن جرائم التعامل مع العدو، وفرص التعديل متاحة منذ العام 2000 وليس فقط بعدما صار العميل الفاخوري بيننا، وربما كان إقفال المجلس النيابي ومنعه من التشريع باسم الانتفاضة الشعبية مقصوداً خلال الشهور التي تلت قدومه، منعاً لمثل هذا التعديل، بعدما كان البحث عن سبب هذا التعطيل لغزاً محيراً، والمراجعة تطال بالتأكيد شروط وظروف اختيار أو القبول بالأسماء المرشحة لمناصب حساسة تتصل بملفات تمسّ صميم عمل المقاومة ومفهومها لأمنها وأمن بيئتها، وكرامة دماء شهدائها، كرئاسة المحكمة العسكرية، ومثل ذلك أيضاً مضمون البروتوكول الذي يمنح الأميركيين امتيازات الخط العسكري من سفارتهم وقواعدهم المنشأة في رياق وحامات ولا يزال معمولاً به منذ أيام اتفاق 17 أيار، عام 1983، وإذا كان بعض هذه المراجعة مطلوباً علناً فإن بعضها لا يمكن أن يطلب علنياً لخصوصيته ودقة وحساسية مضامينه.
– بالتوازي يجب القول إن كلام السيد عن ضوابط التخاطب بين الحلفاء والأصدقاء، ليس دعوة لإلغاء هذه الأخوة وتلك الصداقة، بل فرصة لتصحيح مسارها، حرصاً على بقائها وفعاليتها، ومن ضمن هذه الفعالية النقد والنصح، وأصدقاء وحلفاء المقاومة الذين يعتقدون أن كلام السيد موجّه إليهم، مدعوون للمراجعة والتساؤل عن الحدود التي بدت فيها كلماتهم جارحة، وتشكيكيّة، وخارجة عن الأصول التي أشار إليها السيد، لأنه يصعب الظن أن أياً من هؤلاء، قد تقصّد الإساءة أو أراد إعادة النظر بموقعه من تجربة المقاومة ومسيرتها، وربما غلبه الجرح أو غلبه الشعور بالمونة، فتخطى حدوداً تسبّبت بجرح أشدّ قسوة، رأيناه في ملامح السيد ونبرة صوته، ولا نظنهم فرحين به أو يسمحون بحدوثه أو يتحمّلون أن يكونوا سبباً لمثله، وهم الذين وقفوا مع المقاومة في الصراء والضراء، وتحمّلوا بسبب وقوفهم معها الكثير الكثير، والمقاومة وحزبها وقائدها أهل وفاء لا ينسون، بل يؤخذ عليهم تسديد ديون لا تُحسَب عليهم وقد احتسبوها ديوناً عرفاناً بموقف وتقديراً لتضحية، والطريق سالكة للمراجعة التي تصحّح، وهذا يستدعي منهم المراجعة الهادئة، والمبادرة الهادفة.
– في بيئة المحبّين والمتحمّسين للمقاومة، المطلوب الهدوء وعدم المساهمة عن غير قصد، من موقع الانفعال العاطفي المشروع، بتجريد المقاومة من أصدقاء وحلفاء، لا تريد خسارتهم، من دون التفريط بحقها بالاحترام واعتماد أصول التخاطب في حالات النقد والخلاف، فإفساح المجال لتصويب العلاقة وتحصينها يتناقض مع لغة التخوين والتشكيك بهؤلاء الحلفاء والأصدقاء، الذين تريد منهم المقاومة المراجعة، لأنها تريد تصويب مسار لا إعادة نظر بخيار، ولتكن التجربة القاسية فرصة لعودة الجبهة السياسية والإعلامية والفكرية التي تتصدّرها المقاومة وتسلّم للسيد بقيادتها، متماسكة، بل أشدّ تماسكاً، وقد نالت الدروس التي يجب أن تتعلّمها من هذه المرارة بكل أبعادها، فهكذا تكون الضربة موجعة ولا تكون قاتلة، والضربة التي لا تقتلك تقوّيك.