عن الفراغ والطائف.. والحماسة للفيدرالية! نبيل هيثم
بات من المسلـّم به لدى مختلف القوى والفئات السياسية، ان لا مؤشرات لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في المدى القريب.
معنى ذلك، ان الفراغ المستحكم بالرئاسة الأولى منذ نحو عشرة اشهر، سيستمر أشهرًا إضافية، وربما أكثر، ومعه كل هذا الهريان الذي يجتاح الدولة بكل مؤسساتها، ويعطل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
صار المشهد جامداً أمام اللبنانيين، الزمن متوقف عندهم امام سلبيات تتناسل من بعضها البعض وأزمات تتوالد وتتراكم في شتى المجالات، وأمام أصحاب مناصب ومقامات رفيعة، متمترسين خلف مكتسبات ومصالح وشعارات ومواقف ثبت عقمها وأنها كانت الولاّدة الطبيعية لأزمة الحكم المستعصية التي باتت تدعو كل اللبنانيين الى الرقص معصوبي الأعين على حافة الهاوية، على إيقاع اسئلة تزاحم بعضها، وتتوسل أجوبة لعلها ترسم صورة الغد المجهول، والمفتوح على كل ما يمكن تخيله من تداعيات وسقطات!
ما هي نهاية هذا الفراغ؟
سؤال فرض نفسه في نقاش سياسي من اتجاهات مختلفة، حول «الأعطاب» في جسم الدولة والنظام، وكيفية تجاوزها او معالجتها إذا امكن. بدا جلياً أن الجامع المشترك بين المشاركين في هذا النقاش، هو القلق مما قد يؤول اليه البلد في ظل هذا الواقع الرديء ومع تطور الاحداث والوقائع وتراكم السلبيات والتعقيدات، والتي قد تشكل كلها مجتمعة الوصفة المناسبة لعبور البلد من أزمة حكم مستعصية الى أزمة نظام سياسي اكثر استعصاءً وتعقيدًا.
اتفق المشاركون في النقاش على ان منسوب القلق في اعلى مستوياته عند اللبنانيين وشكوكهم تكبر يوماً بعد يوم، خاصة أن أياً من اصحاب المقامات والمسؤوليات لا يضمن بقاء لبنان على ما هو عليه، وليس منهم من يستطيع ان يحدد مستقبل النظام السياسي، وكم من الوقت بعد يمكن للبنان ان يعيش بلا رأس وبلا دولة وبلا انتظام لعمل السلطات والمؤسسات فيه. وأما اكثر ما يخشاه اللبنانيون فهو ان يفلت النظام السياسي فعلا من ايدي الممسكين به.
مما لا شك فيه، والكلام لبعض المشاركين، انه كلما طال امد الفراغ، ازداد مستوى الهريان في الدولة والتآكل المؤسساتي، وازداد ارتفاع جدران العزلة والافتراق بين الاطراف الداخلية، وبالتالي لا بد من صدمة تجلب الجميع الى «بيت الطاعة». ولكن كيف ذلك؟ وهل هذه الصدمة ممكنة في ظل هذا الانقسام العمودي الحاد بين اللبنانيين، وافتراق الرؤى والتوجهات السياسية، والتمترس الخطير خلف الطائفية والمذهبية والعصبيات؟
ولعل السؤال الأهم، هل ثمة وسيلة لدفع هذه الكيانات الطائفية الى طاولة شراكة حقيقية من صنع محلي خارج اطار التبعية والارادات الخارجية، لابتداع صيغة ما ترضي الجميع، وبالتالي تقديم حد ادنى من التنازل عما تعتبرها مصالحها ومكتسباتها ومطالبها التعجيزية القائمة على السعي الى التفرّد والاستئثار ونيل حصة الأسد من قرص الجبنة الداخلي؟
إن على اللبنانيين إعادة إنتاج لوحتهم السياسية الداخلية، ولكن كيف؟ يجيب مشاركون في النقاش «بالعودة الى إنتاج النظام على ما هو عليه ودب الروح فيه، بالرغم من كل علاته كونه أهون الشرور، ثم ليس هناك من بدائل متوفرة».
لكن النظام يترنح، وصار آيلا للسقوط، خاصة أن صنف العقلاء من السياسيين يكاد يصبح عملة نادرة، والطامة الكبرى ان الأجيال السياسية الجديدة متأثرة بمناخ التعبئة ولديها نوع من الجموح نحو المذهبية والتعصب، وعودة إنتاج هذا النظام، أشبه ما تكون بمداواة السرطان بالمسكنات. هذا النظام مصاب بخلل بنيوي تسبب في الفراغ الرئاسي، وبالشلل المجلسي وبالتخبط الحكومي. وبكل هذا الحجم الهائل من الهريان الإداري والمؤسساتي والاختلاف والانقسام والاحتقان السياسي والمذهبي.. لقد اثبت هذا النظام على مرّ السنين انه ليس بمستوى التحديات، وفق رأي أحد المشاركين.
ومع إصرار بعض المتحمسين على ان الجراحات الموضعية قد لا تكون شافية للنظام، قطع هذه الحماسة تذكير من قبل بعض المشاركين في النقاش بأن الذاكرة اللبنانية تحفل بتجارب صعبة حصلت على طريق الطائف، وكذلك على طريق الدوحة. وكلها تجارب قاسية وقسرية، لم يذهب اليها اللبنانيون طوعاً وبإرادة وعقل وإدراك.
هنا، تطلع احد المشاركين الى ما يجري من حول لبنان، ليقول: لعل تجربة جديدة تلوح امام لبنان، فالأزمات الكبرى تعصف بكيانات المنطقة وتعيد تأسيسها بالدم والمجازر، وأما لبنان فهو محظوظ لأن نار المنطقة لم تصل اليه، وبالتالي هي فرصة ليلملم أشلاءه ويعيد إنتاج نفسه، بصدمة سياسية تعقلن اصحاب المقامات العالية، فيتداركون ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان ومن دون الحاجة الى الانزلاق الى لعبة الدم، خاصة أن النظام السياسي الحالي لم يعد صالحاً لاحتواء طموحات اللبنانيين.
قال أحدهم إن المخرج يكمن في التعجيل بانتخاب رئيس جديد الجمهورية، لكن هذا الكلام استدرج أحد السياسيين المسيحيين الحاضرين ليبوح ببعض الهواجس: «إن من السذاجة الاعتقاد بأن مجرّد انتخاب رئيس يمكن أن يشفي المريض أو يمكن أن يطمئن المسيحيين. الأزمة ليست فقط أزمة تعبئة مناصب وفراغات، فلنفرض أنه تم انتخاب رئيس، فما الذي يمنع أن تتكرر المشكلة مرة ثانية وثالثة ورابعة .. الخ».
فُهم من صاحب هذا الكلام أن بعض القوى المسيحية تتحدث همساً، من خلال اتصالات أجرتها في ما بينها وكذلك مع قوى وشخصيات سياسية، وأثارت صراحة موضوع «المؤتمر التأسيسي»، متسلحة بموقف بكركي، وبأداء ما بعد الطائف الذي كشف فراغاً وعرياً وعطباً مسيحياً ماررونياً، وعلى وجه الخصوص في موضوع الصلاحيات، ووجود المسيحيين في الدولة وفي سلطة القرار.
يكشف صاحب هذا الكلام، ان بعض النخب والقيادات المسيحية بدأ يدغدها مجدداً موضوع إعادة النظر في النظام السياسي، على قاعدة «الفيدرالية». ومن هذه النخب من اصدر كتيبات تجري مناقشتها عميقاً وبصوت خافت في الصالونات السياسية، وثمة أطراف مسيحية وضعت «كراسات»، حصلت بعض القوى السياسية على نسخ منها.
ويرتكز الساعون الى «الفيدرالية»، بحسب ما هو مثبت في تلك الكراسات، إلى مقولة «أن الفيدرالية هي مستقبل المنطقة، وإلى التحولات التي تعصف بالمنطقة واشتداد الصراع المذهبي والتهديدات الوجودية التي تتعرّض لها المجتمعات المسيحية، والنزاع السني ـ الشيعي، وأيضاً دخول بلدان المنطقة في الإطار الفيدرالي فعلياً أو في سياق مشروع فيدرالية.
يضيف صاحب هذا الرأي المتحمس للفيدرالية: «هذا النظام، الذي أثبت أنه فاشل وعاجز عن تأمين انتخاب رئيس وعن التعيين وعن إعداد قانون انتخاب، يفتح المجال في البلد أمام فيتوات متبادلة وآلية حكم معطلة.. ثم هناك من يقول إن داعش آتية الى لبنان، حزب الله يحمي منطقته، والسنة كذلك، فمن يحمي المسيحيين من مرجعيون الى دير الأحمر؟ يجب ألا يستغرب الشريك المسلم حقيقة أن المسيحيين مع الصيغة التي تؤمن حمايتهم: كانتون او فيدرالية او لا مركزية موسعة، الشريك المسلم لديه سلاح ولديه رعاية ومرجعية إقليمية، وأما المسيحي فلا يملك شيئاً وهو يريد أن يضمن حضوره ووجوده، فهل يستطيع شريكه المسلم ان يعطيه ذلك؟
وأما الجواب على هذا الطرح، فحمل تأكيداً على أن الطائف، وعلى علاته، هو الموجود ولا بديل عنه كناظم وحيد لمسار الحكم في لبنان، علماً بأن الفراغ المفتوح على كل الاحتمالات، يهدده في الصميم.
حتى الآن ما زال الطائف محاطاً بحماية خارجية له، وليس في اجندة الخارج الإقليمي او الدولي اي تفكير في مقاربته لا تعديلاً ولا تغييراً.
(السفير)