بعدما أنهى الحريري «التسوية الرئاسيّة»: الأزمة السياسيّة تسابق الأزمة الماليّة…: د. عصام نعمان
في 14 شباط يتزامن في لبنان عيد العشاق (سان فالنتين) مع ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. العشاق احتفلوا بعيدهم سراً. الحريريّون احتفلوا بالذكرى الأليمة علناً. سعد الحريري، إبن الراحل الكبير وزعيم “تيار المستقبل”، اغتنم المناسبة الأليمة لينهي بغير رفق “التسوية الرئاسيّة” التي كانت جعلته رئيساً للحكومة في مقابل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
إنهاء “التسوية الرئاسية” لم يكرّس الطلاق بين الحريري وعون بل كرّس ايضاً الانشقاق داخل الشبكة الحاكمة. الانشقاق سياسي وليس بنيوياً. ستزداد معه أزمة لبنان المزمنة تعقيداً وأضراراً. فالأزمة المالية التي تعانيها البلاد والعباد ستقترن من الآن وصاعداً بالأزمة السياسية ما يطرح سؤالاً ملحاحاً: هل يمكن علاج الأزمة المالية البالغة الخطورة بمعزل عن معالجة الأزمة السياسية التي لا تقلّ عنها تعقيداً وخطورة؟
الرئيس حسان دياب أطلق على حكومته اسم “حكومة مواجهة التحديات”. إنّ انهيار “التسوية الرئاسية” لا يضع في طريق حكومته تحدياً إضافياً فحسب، بل لعله يستثير تحدياً آخر ماثلاً هو نزوع أهل الانتفاضة الشعبية التي دخلت شهرها الرابع الى اغتنام فرصة انشقاق الشبكة الحاكمة من أجل تأكيد شعارها الأثير “كلن يعني كلن” وإكسابه المزيد من الصدقية والفعالية.
صحيح أنّ معالجة الأزمة المالية المستفحلة تبقى الأولوية الأولى في حساب أهل السلطة كما القيادات الوطنية الواعية لكونها تهدّد حياة غالبية شعب لبنان من فقراء وذوي دخل محدود، لكن إيجاد المخرج الاقتصادي والاجتماعي الآمن من مخاطر هذه الأزمة سيبقى ناقصاً ومهدَداً بالانسداد ما لم يقتنع حسان دياب وحكومته ومَن يدعمه ويطالب بمنحه فرصة للعمل كما ذوو النيات الحسنة من معارضيه بأن لا مناص من تعجيل الخروج من قيود وأغلال نظام المحاصصة الطائفية وثقافة الفساد، وأنّ ذلك لن يتحقق على أيدي أهل السلطة ومؤسسات النظام الفاسد والمترهّل بل بفعل اللبنانيين الوطنيين الشرفاء ومن خلال إصلاحات جذرية يُصار الى إقرارها في استفتاء شعبي.
أهل الانتفاضة طالبوا ويطالبون بإجراء انتخابات مبكرة تأتي بممثلين شرعيين أكفاء إلى سدّة التقرير والتنفيذ، لكن فاتهم بادئ الأمر أن لا سبيل الى تحقيق هذه الغاية من خلال قانون الانتخابات الحالي غير الدستوري، فكان أن سارعوا الى تبنّي المطلب القديم الجديد للقوى الوطنية التقدمية الداعي الى اعتماد قانون ديمقراطي للانتخابات يكفل تحقيق صحة التمثيل الشعبي وعدالته، وأن ذلك شرطٌ رئيس وجوهري متوجّب للانتقال من نظام الطائفية والفساد والفوضى الى الدولة المدنية الديمقراطية.
يجب أن يقتنع حسان دياب ومَن يقف وراءه ومعه من ذوي النيات الحسنة في المجتمع السياسي، بأنّ معالجة الأزمة السياسية لا تقلّ أهمية، إنْ لم تكن تتفوّق في أهميتها على معالجة الأزمة المالية، وبأنّ عليه المبادرة دونما إبطاء الى تأليف هيئة وطنية من اختصاصيين وعاملين في الحقل العام مشهود لهم بالمعرفة والخبرة والإحاطة بمقتضيات الإصلاح السياسي والإداري، تكون مهمتها التوافق خلال شهر واحد على وضع صيغة متكاملة لقانونٍ للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته كما مراعاة أحكام الدستور لا سيما المواد 7 (مساواة اللبنانيين لدى القانون) و22 (انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) و27 (النائب يمثل الأمة جمعاء) وطرحه بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء لإقراره في استفتاء شعبي، ولإجراء الانتخابات تالياً على أساسه.
أرى، وغيري كثيرون، أنّ لإقرار قانون الانتخابات الجديد في استفتاء شعبي مشروعية دستورية لكون “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة” بحسب الفقرة “د” من مقدمة الدستور، ولأنّ الظروف الاستثنائية تستوجب اتخاذ قرارات وتدابير استثنائية بحسب نظرية الظروف الاستثنائية الراسخة في القانون العام والمعمول بها في عدد من الدول الديمقراطية (لا سيما فرنسا)، ولأنّ ثمة دعوة عامة للتعجيل في إجراء انتخابات مبكرة لا يقتصر المطالبون بها على جمهور الانتفاضة الشعبية فحسب، بل إنّ أفرقاء من أهل النظام (كتلة الرئيس نجيب ميقاتي) وكتلة نواب حزب الكتائب، وكتلة نواب الرئيس سعد الحريري يطالبون بها ايضاً، ولأنّ ثمة تحسّساً ملحوظاً بازدياد الحاجة إليها بدليل أنّ كتلة رئيس مجلس النواب (التحرير والتنمية) كما رئيس كتلة نواب “اللقاء الديمقراطي” (وليد جنبلاط) أعلن كلٌ منهما مشروع قانون انتخابات جديداً بشأنها منذ أسابيع، ولأنّ قبلهما بسنوات كانت القوى الوطنية والديمقراطية أعلنت مشروع قانون ديمقراطي للانتخابات على أساس الدائرة الوطنية الواحدة، والتمثيل النسبي، وخفض سن الاقتراع الى الثامنة عشرة، وانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف.
باختصار، انّ المسؤولين والمواطنين الشرفاء مطالبون بالمسارعة الى العمل والضغط بغية اعتماد المقاربة الإصلاحية الجذرية المبيّنة آنفاً قبل فوات الأوان وانزلاق البلاد والعباد من جديد إلى الفوضى والاضطراب الأمني والانهيار على المستويات كلّها.
(البناء)