الازدواجية الدبلوماسية: وزير أصل vs وزير ظلّ: نقولا ناصيف
بعد أن تحوز حكومة الرئيس حسان دياب ثقة مجلس النواب، يفترض أن تكون أمام استحقاق تحتاج إليه هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، وإن بدا منذ يومها الأول مستبعداً: دبلوماسية واحدة لسياسة خارجية واحدة
في بيانها الوزاري، تحدثت حكومة الرئيس حسان دياب عن «تفعيل الدبلوماسية العامة التي تتجه إلى صنّاع الرأي والقرار في المجتمعات المختلفة (…) كي تكمل دور دبلوماسيتنا الرسمية». يشير هذا التعهد إلى دبلوماسية موازية للدبلوماسية الرسمية، تخاطب المجتمعات شأن نظيرتها تخاطب الحكومات. مع أن العبارة تبدو محدثة بدلالاتها، بيد أنها تعبّر عن المشكلة الفعلية للدبلوماسية الرسمية اللبنانية، وتكرّس الازدواجية المألوفة في السياسة الخارجية للبنان. في مجلس الوزراء سياسة خارجية، وخارجه سياسة أخرى، على نحو مطابق تماماً لمفهوم النأي بالنفس، في البيانات الوزارية المتتالية منذ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011. يدين هذا المفهوم بنشوئه، للمرة الأولى واعتماده في ما بعد، إلى الحرب السورية وتداعياتها على لبنان.
أما الدبلوماسية الرسمية، فشأن آخر تماماً.
في أولى مهمات الوزير الجديد للخارجية ناصيف حتّي، شرح الكمّ الكبير من المشكلات اللبنانية المتراكمة المعقّدة التي تبدأ بضائقته النقدية والاقتصادية الخانقة، ولا تنتهي بما يشبه الحصارين العربي والدولي عليه الناجمين من جهة عن العقوبات الأميركية على حزب الله، ومن جهة أخرى ضغوطها على مصارفه، مروراً بتجميد المساعدات وصولاً إلى مأزق لعبة المحاور التي يتخبّط فيها لبنان. أضف التطورات الأخيرة للنزاعات الإقليمية و«صفقة القرن».
منذ مطلع الولاية الحالية، لا سياسة خارجية واحدة ولا وزير واحداً للخارجية. في الحكومتين الأخيرتين، إلى الوزير السابق جبران باسيل، وزير آخر للخارجية طبيعي بحكم الإرث السياسي هو رئيس الحكومة سعد الحريري. قلّما يجولان، الأصل والظل، على العواصم ذاتها أو تكون لكليهما الكلمة المسموعة نفسها عندها. بيد أنهما ليسا الأولين في ذلك.
على مرّ العقود الثلاثة منذ تطبيق اتفاق الطائف عام 1990، تناوبت المذاهب الرئيسية الثلاثة، المارونية والشيعية والسنّية، على حقيبة الخارجية من غير أن تكون ثمة سياسة خارجية واحدة انتظمت على امتداد العقود تلك. ربما يصح الاستثناء هنا في عقد التسعينات فقط، عندما تداخلت الدبلوماسيتان اللبنانية والسورية وصارت إحداهما مكملة للأخرى وملزمة لها حتى. استأثر الموارنة بحقيبة الخارجية 14 سنة (9 سنوات مع فارس بويز و5 سنوات مع باسيل)، والشيعة 12 سنة (5 سنوات مع محمود حمود و3 سنوات مع فوزي صلوخ وسنة مع علي الشامي و3 سنوات مع عدنان منصور)، والسنّة (سنتان مع الرئيس سليم الحص). ما خلا السنتين اللتين تولى فيهما الحص الحقيبة، ما بين عامي 1998 و2000، من المتعذر تلمّس سياسة خارجية واحدة. مثلت هاتان السنتان المرحلة الوحيدة تقريباً لم تنشأ من خلالها ازدواجية الدبلوماسية، أو يتعارض موقف الوزير مع رئيس مجلس الوزراء ومع مجلس الوزراء.
كان بويز في ولاية الرئيس الياس هراوي هو الوزير، إلا أن رئيس الحكومة رفيق الحريري راح يفاخر بأنه وزير خارجية لبنان وسوريا معاً في المحافل الدولية. مراراً وقع الخلاف بينهما بإزاء مشاركة لبنان في مؤتمرات، لكن أيضاً في ما هو أهم، وهو تمسك الوزير بصلاحياته على أنه هو المختص يواجه، أحياناً في معركة خاسرة وأحياناً رابحة، شخصية استثنائية كان يمثلها الحريري الأب القادر على الوصول إلى رئيس أي دولة بلا موعد مسبق. عندما يحضران مؤتمرات يذهب كل منهما إليها بمفرده وفي طائرة مختلفة. وعندما يريد أحدهما التشاور مع دمشق في جولة إقليمية أو دولية، يحدّثها مستقلاً عن الآخر. حينما كان الحريري الأب يحضر يتصدّر تمثيل لبنان، رغم وجود الوزير المختص إلى جانبه.
ثابر الرئيس الراحل على هذا الطبع في ولاية الرئيس إميل لحود عندما عاد إلى السرايا، رغم وجود الحقيبة بين يدي وزير شيعي هو محمود حمود ما بين عامَي 2000 و2005. في مرحلة الانقسام الحاد في البلاد بين قوى 8 و14 آذار بعد اغتيال الحريري الأب – وإن حافظ الثنائي الشيعي على الحقيبة في حصته – تصرّف رئيسا الحكومة المتعاقبان فؤاد السنيورة والحريري الابن على أنهما الوزيران الفعليان للخارجية، وصاحبا القرار الدبلوماسي. ليس مجهولاً ما كان يحدث بين عامَي 2005 و2008 حتى الوصول إلى 7 أيار، حينما امتنع الأميركيون والفرنسيون والألمان عن مخاطبة سوى السنيورة، ولم يتبادلوا تقارير ومعلومات سرية وخيارات إلا معه. نُظر حينذاك إلى أن ثمة وزير خارجية ظل هو طارق متري عندما استقال الوزراء الشيعة الخمسة عام 2006، ثم عندما عاودوا توقيع البريد اليومي. لم يعدُ الوزير الشيعي عندئذ سوى رئيس إدارته فحسب.
الحريري وزير خارجية العواصم وباسيل وزير خارجية الجاليات
ما بين عامَي 2014 والأمس القريب مع عودة الحقيبة إلى الموارنة، تصرّف باسيل على أنه وزير خارجية لبنان مستثنياً – خصوصاً منذ مطلع ولاية الرئيس ميشال عون عام 2016 – عواصم كأنه غير معنيّ بها: واشنطن، باريس، الرياض التي تختصر عواصم مجلس التعاون الخليجي. عُدّت في حساب الحريري الأكثر ترحيباً به، مع أنه فقد في السنوات الأخيرة الكثير من البريقين العربي والدولي الذي ورثه من والده. أما باسيل فبدا – ما خلا المؤتمرات التي يحضرها واللقاءات العابرة على هامشها – وزير خارجية الجاليات اللبنانية، مكلفاً سفيريه في العاصمتين الأهم، باريس وواشنطن، إحصاء اللبنانيين المقيمين هناك، المنتمين إلى التيار الوطني الحر أو أنصاره، في لوائح شطب انتخابات 2018.
في مراحل تأليف حكومة دياب، كان الاشتباك على حقيبة الخارجية في ذروته. أحد أبرز تنازلات الرئيس المكلّف آنذاك، التخلي عنها بعدما أرادها للوزير دميانوس قطّار. إصرار رئيس الجمهورية وصاحب الحقيبة في الحكومة المستقيلة أخّرا التأليف، إلى أن فاضل دياب بين الحقيبة ووزيره، إذّاك كرّس مجدداً الازدواجية أو بعض ملامحها. مع أن قطّار وزير للبيئة والتنمية الإدارية، إلا أنه يحضر اجتماعات رئيس الحكومة مع السفراء الأجانب تأكيداً من دياب على أنه المولَج بالشق الدبلوماسي المعنيّ به رئيس الحكومة: وزير أصيل هو حتّي، وآخر وزير ظل هو قطّار، كجزء لا يتجزّأ من الانقسام الناشب في البلاد منذ عام 2005، والعقبة الكأداء القائمة مذّاك، وهي أن من المتعذّر للبنان الرسمي استنباط سياسة خارجية واحدة في ظل توزّع أفرقاء الداخل على محورين إقليميين متنافرين.
(الاخبار)