إيران وفعلها التحرري في الشرق
غالب قنديل
في مثل هذه الأيام من العام 1979 كانت إيران في ذروة الغليان الشعبي الثوري فقد رحل الشاه إلى منفاه وعين موعد عودة قائد الثورة الإمام آية الله الخميني إلى الوطن في الأول من شباط من العام نفسه بعد سنوات المنفى الطويلة والصعبة.
كنا في رابطة الشغيلة منحازين إلى هذه الثورة التي رفعت قيادتها راية طرد الوجود الاستعماري واكدت التزامها بفكرة القضاء على القاعدة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين وقد كرسنا لمواكبتها ما لدينا من أدوات إعلامية محلية متواضعة كانت يومها جريدتنا اليومية صوت الشغيلة وإذاعتنا المصنعة يدويا صوت الثورة العربية التي تعرف عبرها اللبنانيون إلى صوت الإمام الخميني وأناشيد الثورة.
كنا وحيدين في هذا الخيار ولم نكن على تفاهم مع أي من فصائل اليسار والأحزاب الشيوعية العربية التي تلونت مواقفها بعد سنوات وبعضها جامل الجمهورية لاحقا من غير أن يمارس نقدا ذاتيا على ما سبق له أن أصدره من الهجاء والنكران بحق الثورة وقائدها.
يجدر القول أن من بين النخب التقدمية العربية كنا على تفاهم مبدئي مع المفكر العراقي الراحل هادي العلوي ولاقانا في التفاعل مع الحدث الثوري العظيم الثنائي المصري العروبي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم اللذين قدما نشيدا للتضامن مع الثورة ينطوي على حسرة عربية جامعة بعبارة ” لوكان الخميني عندنا”.
وحده من بين القيادات العربية كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يدرك المغزى الاستراتيجي للحدث التاريخي وهو الذي كان يعاين جميع التحولات من زاوية ارتباطها بفكرة التحرر العربي من الهيمنة الاستعمارية والتصدي للعدوانية الصهيونية وقد وجد في قوة إيران التحررية الصاعدة نصيرا وحليفا فقدم المساندة السياسية والعملية للثورة ولجمهوريتها منذ قيامها بلا تردد وفي المعلومات التي ترددت لاحقا كان العديد من رسل الإمام وموفديه يزورون دمشق باستمرار ويقيمون علاقات صداقة وتنسيق مع القيادة السورية التي شكلت بشارة طهران لها متنفسا من اختناق إقليمي كبير اعقب اتفاقية كمب ديفيد.
كان النقاش في صفوف القوى اليسارية والقومية العربية المناهضة للاستعمار والصهيونية يتركز على الموقف من الثورة ومسارها انطلاقا من هويتها الإسلامية ودارت جدالات ونقاشات مريرة ومتشعبة في صياغة المواقف والخيارات.
كنا يومها ننفرد بمساندة هذه الثورة انطلاقا من قاعدتين هما جوهرها التحرري المعادي للاستعمار والصهيونية وفهمنا العميق لمضمون التجديد النوعي الذي تضمنته كتابات وخطب الإمام الخميني برسم هوية فكرية إسلامية تقدمية تحررية بالمعنى التاريخي محورها الانحياز إلى المستضعفين واعتبارهم قوة التغيير داخل إيران وفي المنطقة والعالم وعلى هذا الجوهر الفعلي أقمنا قراءتنا للثورة الإسلامية بحيث احترمنا هويتها العقائدية والتقينا مع مشروعها السياسي المناهض للهيمنة وهنا جوهر التناقض الرئيسي في المنطقة الذي حفزنا لمتابعة ومساندة الخطوات الإيرانية اللاحقة لقيام الجمهورية الفتية بتثبيت التحالف مع سورية التي تصدرت المعركة في وجه معسكر كمب ديفيد والحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي في البلاد العربية وحيث قام بعد الثورة محور سوري إيراني احتضن ودعم المقاومة الفلسطينية ورعى المقاومة اللبنانية وتطورها وانتصاراتها وربما كنا وحيدين كذلك في إدراك وكشف الوظيفة الاستعمارية للحرب التي دفع لخوضها الرئيس الراحل صدام حسين بتدبير أميركي تكشف تباعا وهو ما ألحق أضرارا جسيمة وخطيرة بكل من العراق وإيران.
لم نرضخ في فهمنا للأفكار المسبقة او للفرضيات الإيديولوجية الديماغوجية لأننا قدمنا فهم الظواهر السياسية في جوهرها الفعلي وما تمثله في التعامل مع التحديات الحقيقية لحركة الصراع في المنطقة والعالم وقرأنا وتابعنا ارتسام وتشكل الهوية الإسلامية الإيرانية المعادية للاستعمار والصهيونية انطلاقا من فهمنا للميراث الإسلامي التحرري الذي احياه الإمام الخميني ورفاقه وقدموه لشعبهم فقادوا اعظم ثورة شعبية في الشرق شهدتها العقود الأخيرة من القرن العشرين واسقطوا نظاما عميلا كان الحليف الأول للكيان الصهيوني ووكيلا إقليميا شرسا للهيمنة الاستعمارية الغربية.
الدرس التاريخي الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية في إيران لجميع الوطنيين والتقدميين العرب في مسارها التحرري هو نموذج بناء القوة الذاتية الهائلة من خلال اولوية التخلص من الهيمنة الاستعمارية والاعتماد على الثروات والقدرات الوطنية لبناء اقتصاد مستقل ذاتي المركز وعقد الشراكات الندية المتكافئة مع الدول المتمردة على الاستعمار والهيمنة على ميثاق التحرر في العالم فإيران الإسلامية هي الحليفة الأولى لسورية العروبية وشريكة رئيسية للصين الشيوعية ولروسيا بوتين في التصدي للهيمنة الأميركية.
سيبقى الدرس الإيراني الأهم هو وحدة النضال التحرري في المنطقة التي جسدها الالتزام الإيراني خلال أربعة عقود مضت بدعم جميع حركات التحرر والمقاومة العربية والتي بذل الشعب الإيراني والدولة الإيرانية تضحيات جليلة في تمكينها من تطوير قدراتها والتصدي للغزوة الاستعمارية الصهيونية بل إن إيران الثورة قدمت نموذجا فريدا من خلال جنودها وضباطها وقادتها الذين بذلوا الدماء والأرواح في سبيل لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن وكان رائدهم مؤخرا الشهيد الكبير الفريق قاسم سليماني الذي عرفه المقاومون والأحرار العرب في الظروف الصعبة والحرجة نصيرا ومعينا وشريكا في ملاحم بطولية حملت بصمته الخالدة في تجسيد الأخوة العربية الإيرانية.