مقالات مختارة

الامبراطورية 
المستبدّة: د. عدنان منصور

   منذ أن حلت الولايات المتحدة الأميركية مكان الاستعمار البريطاني والفرنسي، وأخذت موقعها المؤثر والمهيمن على مساحة العالم كله، ظنت شعوبه التي عانت من الاحتلال الظالم البغيض للإمبراطوريتين، ان الولايات المتحدة ستحمل لها الترياق مستقبلاً، بعد معاناتها الطويلة من الظلم والجور والاضطهاد، وأنها ستطبق حيالها المبادئ السامية التي حملتها الثورة الأميركية في الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. لكن الإمبراطورية الأميركية وللأسف الشديد، سرعان ما كشرت عن أنيابها لتبتعد وبسرعة عن مبادئ ثورتها،

ولتمارس الاضطهاد والاستبداد والاستغلال بأبشع صوره تجاه الدول والشعوب المستضعفة المقهورة من دون حدود وضوابط وأخلاقيات، وهي تعبث بكل القيم والمبادئ والأعراف، وتضرب بعرض الحائط القوانين والقرارات الدولية، غير عابئة بحقوق الشعوب وحريتها وسيادتها وكرامتها. إن استبداد الولايات المتحدة وتدخلها في شؤون دول العالم وتأجيجها للاضطرابات فيها، ووقوفها وراء الانقلابات التي قوّضت أنظمتها، وهيمنت عليها، ظهرت جلية واضحة، في المكسيك، وأميركا الوسطى والجنوبية، وفي أفريقيا وجنوب شرق آسيا وغيرها. وما دول غربي آسيا الا النموذج الحي للاستبداد الأميركي، وللسياسات الشرسة الظالمة المنحازة التي مارستها واشنطن ضد شعوبها، والتي أخذت أبعادها الخطيرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم تكن واشنطن يوماً بجانب الحق والعدل الذي تتطلع إليهما شعوبنا. بل على العكس، وقفت مع المحتل والمعتدي والطاغية، وشاركت وساهمت ودعمت إقامة دولة الاحتلال الصهيونية في فلسطين، وكانت وراء الانقلاب العسكري في سورية عام 1949، وأطاحت الحكومة الوطنية لمحمد مصدق في إيران عام 1953 ووقفت في وجه كل نظام يرفض الترويض الأميركي والدخول في فلكه ودائرة نفوذه. وهل تدري اليوم الولايات المتحدة انه في كل بلد من الشرق الأوسط وفي العالم العربي، ولدى شعوب العالم، هناك شعور عميق بالكراهية الشديدة تجاهها، جراء سياسات الاستبداد والاستغلال، والتدخل العسكري السافر والمباشر وغير المباشر، ونشر القواعد العسكرية في أكثر من مكان، لتضمن مصالحها الاستراتيجية، وتوفر الاستمرارية لحكام يؤمرون فيطيعون، ويُملى عليهم وينفذون؟!!! فهي لم تتوقف يوماً عن إثارة الفوضى ودعم الحركات الانفصالية وحياكة المؤامرات ضد الأنظمة الوطنية الرافضة لسياسة الهيمنة والتسلط والتبعية والاستغلال.

فالبصمات السوداء لأصابع الإمبراطورية المستبدة نراها في أماكن كثيرة من العالم، حيث ألحقت حروبها وعملياتها العسكرية الموت والدمار وأفقرت شعوبها، ومزقت نسيجها الوطني، وتحكمت بأنظمتها، واستولت على مقدراتها وثرواتها وأموالها وتحكمت بقراراتها. بصمات الولايات المتحدة تراها في المكسيك وبنما وتشيلي والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وكولومبيا وكوبا ونيكاراغوا والأرجنتين، وفي جمهوريات الموز التي أدارتها شركات الفواكه المتحدة. كما نرى بصمات الأيادي الأميركية السوداء تفعل فعلها في يوغوسلافيا السابقة، وفي أوكرانيا وجورجيا، وغزواتها للعراق وأفغانستان وغيرها من الدول التي عانت الأمرين من الاستبداد والنفوذ الأميركي واستغلاله.

وما شراسة السياسات القبيحة للولايات المتحدة وتدخلاتها المدانة واعتداءاتها المتكررة، وغطرستها في غربي آسيا وفي بقية دول عالمنا العربي، إلا لتؤكد على أنها وصلت إلى ذروتها اليوم، من خلال احتلالها أراضيَ سورية، وعدوانها الإرهابي على العراق الذي ارتكبه قرصان العالم بحق مقاومين مناضلين وطنيين آلوا على أنفسهم ان يحرروا الأرض من قوى البغي والارهاب، والاحتلال والهيمنة العسكرية الغربية، مهما غلت التضحيات… لم يرق للقرصان أن يرى كلاً من ايران ذات سيادة وكرامة وعنفوان، تتصدّى للطغاة، وقوى التسلط والعراق موحداً قوياً وسورية مقاومة

متماسكة، وقلباً نابضاً لأمتها، تتصدّى وتواجه، واليمن سعيداً معافى، والمشرق العربي حراً سيداً متحرراً من قوى الإرهاب والاحتلال، عزيزاً متوثباً فاعلاً يؤدي دوره الوطني والقومي، ليكون دعامة قوية لأمته وسنداً لها. إن الشهداء الذين سقطوا على يد الطغاة و»دعاة الحرية» ورافعي «مبادئ الثورة الأميركية» وعلى رأسهم الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، لن يكونوا إلا جسراً منيعاً ليعبر كل المقاومين الأحرار في أمتنا، لتحرير الارض من كل البغاة والمحتلين والإرهابيين ورعاتهم وداعميهم. وحدها المقاومة ولا شيء غيرها تستطيع أن تغير وجه المنطقة، وتصحح مسار تاريخها، وتحفظ وجودها وتصون سيادتها وارضها وكرامتها. فالصراع طويل، والاستحقاق كبير، فلا خيار أمام شعوبنا الا المقاومة، التي وحدها تستطيع تحرير الأرض والشعب، وتحرز النصر على المحتل وتجبره على الرحيل.

فمتى تعيد الولايات المتحدة النظر في سياساتها الظالمة المستبدة بحق شعوبنا، حتى نرى فيها فعلاً لا زيفاً، مبادئ الحق والحرية والعدل التي تروجها في العالم، والتي لم نرَ منها الا الوهم والقهر والاستغلال والاستبداد والاحباط.

 حبذا لو أن الولايات المتحدة أطلت على شعوب العالم، التي كانت تعول عليها الكثير، بسياسات عادلة حكيمة بناءة إنسانية، تعكس مبادئ ثورتها، وتساهم في تحقيق الرفاهية، والتنمية والعدل والحرية للشعوب، تنسيها مآسي وويلات وجبروت واستغلال الاستعمار القديم، بدلاً من أن تغدق عليها الموت والدمار والفوضى والفقر، وتنهب ثرواتها دون حدود. لكن ممارسات الولايات المتحدة المتمادية والمستمرة للاسف، تثبت على الارض، ان لا فرق بين سلوك وأسلوب وسياسات الاستعمار القديم، والصورة البشعة للاستعمار الجديد التي تجسدها الولايات المتحدة في العالم من خلال سلوكها اليومي. إذ إن الحقيقة الدامغة تقول، إنه وإن تباين الشكل بين الاثنين، فالجوهر المزيّف مشترك بينهما، فكلاهما وجهان قبيحان لسياسة مستبدة جائرة ظالمة واحدة، مارساها بعنجهية واستكبار بحق الشعوب المقهورة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى