مقالات مختارة

إسرائيل ولبنان: سباق تعاظم القدرات… ومحاولات صدّها: يحيى دبوق

يمكن إسرائيل أن تتحدث ما تشاء حول التهديدات التي تحيط بها، سواء في الدائرة الأقرب او الأبعد. ويمكن، أيضاً، أن «تخطف» ضربة معلنة هنا وأخرى مستترة هناك، معتقدة أنها قادرة على تشويش التهديدات ومنابعها وتعاظمها. لكن، في الواقع، فقد خرجت الأمور عن قدرتها الذاتية في مواجهة القدرات الحالية (المستقبلية القريبة) لأعدائها، رغم كل «الفذلكات» الكلامية التي تصدر عن تل ابيب.

 

في الصفحة الأولى من التوصيف الكلي الواقعي لمبنى القوة والمنعة الإسرائيليتين يتأكّد، يوماً بعد يوم، ان المبنى أكبر بكثير من مكوّناته الحقيقية. لا يعني ذلك ان لا قدرة إسرائيلية معتدّ بها، لا بل إنها ــــ في مجالات كثيرة ــــ متقدمة الى حد تتعذر مجاراته. لكن، في المشهد الكلي للمعادلة، تبقى إسرائيل الكيان الذي لا يمكن ان يهدد وجودياً محور أعدائه ومنابع قدرتهم، وتحديداً ما يتعلق بـ«المركبات الأعظم» لهذا المحور. كما انها لم تعد الكيان الوظيفي الذي يُهدّد الآخرون به أعداءهم وخصومهم.

القدرة على تحليق الطائرات، قريباً او بعيداً، وتوجيه حمولتها نحو هذا الهدف او ذاك، لا يغير كثيراً من المعادلات. والأمر نفسه ينطبق على كثرة الكلام ووفرة المواقف والتهديدات. هذا الواقع، تحديداً، هو اهم التهديدات الماثلة امام إسرائيل: كيف نقنع الأعداء، وأنفسنا، بأن إسرائيل قادرة على اجتثاث تهديد اعدائها رغم انه يتعذر عليها ذلك؟

وينسحب ذلك على لبنان ربطاً بتموضعه الدفاعي في وجه إسرائيل. اذ بات مصدر تهديد رئيسي متعاظم، قريب ودقيق وحازم، يمنع إسرائيل في حال تعاظمه أكثر، إمكانات فرض ارادتها بما يتجاوز الساحة اللبنانية نحو الدائرة الأوسع إقليمياً، الأمر الذي يعد أكثر من تهديد استراتيجي، ويفتح شهية عدد من المسؤولين الاسرائيليين على المطالبة بخيارات متطرفة، مع رهان على تحقيق «نتائج طيبة»، من دون التسبب بحرب واسعة هي، للمفارقة، جزء لا يتجزأ من هذا الخيار.

من على منبر «هرتسيليا» الشهير، تحدث رئيس اركان الجيش الإسرائيلي افيف كوخافي، الأربعاء الماضي، موصفاً تهديدات «محور الأعداء» من ايران، مروراً بالساحتين العراقية والسورية، وصولاً الى حزب الله في لبنان وقطاع غزة في فلسطين المحتلة، مع التشديد على تنامي هذه التهديدات وإصرار هذا المحور على تعظيمها. وهو استفاض في شرح التهديد وما آل اليه، وما تقدر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية انها ستؤول اليه اكثر في المستقبل، واعداً بالعمل على منعه.

لا يقاس ما ورد على لسان كوخافي ربطاً بعباراته المباشرة، بل بالعبارات التي ظهّرت تراجعاً نسبياً في الحزم، وإن أريد لها ان تكون مشبعة بروح الإصرار على مواصلة مواجهة «تهديد» إيراني وحزب الله وحلفائهما، والذي لم يعد مرتبطاً بساحة واحدة، بل بساحات متعددة من شأنها ان تزيد تعقيدات المواجهة على إسرائيل، إن كان لديها استراتيجية فعالة قادرة على تحقيق النتائج الكلية للصد ومنع التهديدات.

برز في الكلمة التشديد على وجود «سباق» بين تعاظم تهديد ايران وتمركزه في ساحات المواجهة، وبين عمل إسرائيل على منعه وصده؛ محاولة تبرئة إسرائيل من تعاظم التهديد، وتحديداً تطور الأعداء في مجال الصناعات الصاروخية الدقيقة، بالإشارة الى ان تقنيات التطور الصاروخي باتت متاحة للجميع، دولاً وجهات؛ وكذلك الإشارة الى تطور القدرة لدى الأعداء، ومن بينهم حزب الله، في «المجال الطيفي»، في إشارة الى القدرة على التوجيه الصاروخي والتشويش على مساراته، ما يمكنها من تجاوز المنظومة الدفاعية الإسرائيلية على اختلافها؛ وفي الأساس، تشديد كوخافي على ان إسرائيل كانت تتمنى ان لا تكون وحيدة في مواجهة ايران، بل ان تكون شريكة للآخرين ممن لم تعد تراعي (ايران) تهديداتهم وقدرتهم الردعية، في إشارة الى الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين الممتنعين عن المواجهة مع اسرائيل.

تحت عنوان «الجيش الإسرائيلي ــــ التحديات والردود»، جاء في كلمة كوخافي:

«دولة إسرائيل هي نجاح هائل. مهمة الجيش الإسرائيلي هي حماية هذا النجاح. لكن ليس بالمعنى الضيق للكلمة، بل عبر توفير الأمن من دون حروب. ولكي ندفع الشعب الإسرائيلي للبقاء هنا، علينا تحقيق فترات امن واستقرار، مصحوباً بخلق حالة من اليأس لدى الأعداء، بأن ليس لديهم القدرة على تحقيق أهدافهم ضد اسرائيل.

هناك تغيير وارتفاع حدة في التهديدات، اذ تنشط ضدنا كل الساحات المحيطة بنا في الدائرة الأولى. في الأشهر الأخيرة، لم يكن هناك ساحة دون إنذارين على الأقل. الأسلحة من العراق تنقل بشكل حر، ولا يمكننا البقاء دون معالجة هذا التهديد.

يوجد في سوريا قوات القدس وحزب الله، وفي غزة وكلاء عن ايران. هناك تضخم هائل في الأنشطة الإسرائيلية السرية في هذه المعركة، وسنواصل هذه العمليات التي تستهدف منع تعاظم قوات القدس في سوريا، ومنع تهديد الصواريخ الدقيقة (في لبنان). وسنستمر بالعمل في كل الدوائر والدول.

التكنولوجيا العسكرية للتصنيع باتت متوفرة، وموجودة لدى متطرفين وأعداء مريرين، وهم ليسوا بحاجة الى صناعات عسكرية مساندة على مستوى دولة، الأمر الذي يسمح لهم بتحويل الصواريخ الى صواريخ نوعية دقيقة بشكل سهل جداً. من جهتنا، نسعى بشكل كبير جداً إلى منع أعدائنا من امتلاك هذه القدرات، وفي حالات، قد نصل الى حافة المواجهة، والى المواجهة نفسها.

إيران تواصل انتاج صواريخ دقيقة تصل الى إسرائيل، ومئات منها باتت موجودة، بشكل خفي دون دراية حولها. الصناعات العسكرية الإيرانية اكبر بكثير من الصناعات العسكرية في إسرائيل، ولدى قوات القدس في سوريا، ولدى حزب الله، قدرة تشويش على الطيف الالكتروني واستخداماته، إضافة الى منظومات الدفاع الجوي ضد أسلحة الجو وصواريخه.

هناك احتمال لا يمكن استبعاده بالمطلق، في ان نصل الى مواجهة مع إيران، ونحن نستعد لذلك، وإن كنا لا نحبذه. علينا مواصلة اقتلاع الأسلحة الإيرانية في سوريا، علماً انه كان من الأفضل لو لم نكن وحدنا نعمل ضد الإيرانيين. الايرانيون هم العدو الفوري والآني ضد إسرائيل. وإن كانت الحرب ليست أبداً هي المخرج الأخير، لكن أحياناً هي أيضاً الحل في الحالات التي تستنفد فيها كل الوسائل الدبلوماسية والخيارات البديلة».

في كلمة كوخافي «خلطة» من الحزم المعلن والحذر والتأني، إضافة الى التحفظ غير المباشر عن إخفاقات ماضية ومستقبلية. مع ذلك، الكلام الذي يحمل الحزم، والحديث وإن المستبعد عن الحروب والأيام القتالية، يثير أكثر من علامة استفهام حول الآتي، وحول إن كانت إسرائيل فعلاً امام قرارات متطرفة قد تفضي الى ما قال كوخافي، انها قد تتسبب بملامسة المواجهة او المواجهة نفسها.

السؤال الافتراضي التقليدي الذي لا يتزحزح من امام الجانبين، هو: هل تنشب المواجهة أم لا؟ الإجابة تبقى على حالها، مع كثير من التعقيدات: «لا» كبيرة مصحوبة بـ«لكن» كبيرة. اذ لا علاقة بما لدى إسرائيل من قدرة على إيذاء لبنان، وهي قدرة واسعة جداً، بالنتيجة التي تريدها: اجتثاث التهديد ومنع تعاظمه. إن كانت قادرة على اجتثاث التهديد، فلا يصعب التقدير انها ستبادر، او ستعمل على موازنة النتيجة، مع الكلفة. لكن ان لا تكون النتيجة محققة (اجتثاث التهديد)، وفي الوقت نفسه تلقي الإيذاء من حزب الله، فيصعب التقدير ان إسرائيل ستبادر في هذه الحالة الى المواجهة او تتسبب بها.

مع ذلك، في الإجابة عن التهديدات الإسرائيلية المتواصلة، التي تحمل الكثير من الفن الكلامي في موازاة مستويات مرتفعة جداً من رفض الإقرار بالواقع، يقال الآتي: إن كانت تل ابيب تملك خيار اجتثاث التهديد ومنع تعاظمه النوعي عبر القتال المباشر، فلتتفضل. اذ لا داعي لانتظار اخفاق «الوسائل الدبلوماسية والخيارات البديلة». وإلا، فلتلائم وضعها وتوقعاتها، مع إمكاناتها الفعلية، ولتتصارح مع جمهورها وذاتها: الوافدون الى «قوس أعداء اسرائيل»، وتعاظم قدراتهم النوعية العسكرية، أكبر بكثير مما كانوا عليه قبل «عمليات الصد» والحزم الإسرائيليين، في السنوات الماضية.

(الاخبار)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى