أزمة لبنان بين الذهب الوطني و«التنك» الأميركي: د.وفيق إبراهيم
بات واضحاً عمق الارتباط الأميركي بحركة الفوضى المتدحرجة في الحراك اللبناني، وهذا يكشف أن هناك قوى خارجية لا تريد حلاً سريعاً للأزمة المحلية، على قاعدة دفعها لتصبح انهياراً اقتصادياً ضخماً.
هذا ليس انصياعاً لنظرية المؤامرة، ألا تكفي تصريحات عشرات المسؤولين الأميركيين من الرئيس ترامب الى وزير خارجيته بومبيو ومساعديهم شينكر وهيل وكرافت وفيلتمان وآخرين، ومعهم رئيس وزراء العدو نتنياهو، كل هؤلاء يؤيّدون ما يسمّونه ثورات في العراق ولبنان، ويعزون اسبابها الى الهيمنة الإيرانية وسلاح حزب الله، مؤكدين أن المنتفضين يريدون إنهاء هذا الإرهاب الإيراني والخاص بحزب الله.
قد يكون هذا التوضيح أصبح تقليدياً ومكرراً، لكن الإنارة على ما جرى ليل السبت الأحد الماضي، تؤكد بما يدحض كل شكّ في أن أهداف الممسكين الفعليين بالحراك اللبناني أكبر من مسألة حكومة أو تغيير نظام وإلغاء طائفية سياسية.
فكيف يمكن استدراج نحو ألف متظاهر من شمال لبنان والبقاع إلى بيروت ليهاجموا قوات الأمن المرابطة على مقربة من المجلس النيابي، ولمدة زادت عن ست ساعات متتالية لم تنتهِ إلا عند الثالثة فجراً، واستعمل فيها المهاجمون قنابل فيها ألعاب نارية، وعصياً وحديداً، متسبّبين بعشرات الجرحى في صفوف قوى الأمن.
وتبيّن من هتافاتهم أنهم لا يريدون تشكيل حكومة مهما كان شكلها ولونها معترضين حتى على رئيسها المفترض سعد الحريري.
فماذا يريدون إذاً؟ تقول المعلومات إن نحو مئة مواطن، من المرتبطين ببعض السفارات الخليجية والأجنبية دفعوا إيجار مئات السيارات والناقلات مستعملين مشايخ دين واحاب إسلاموية تكفيرية لحشد عدد كبير من الشباب، لإنقاذ ما قالوا إنه «استهداف للطائفة السنية» من قبل حزب الله والتيار الوطني الحر، ووزّعوا على كل مشترك مبلغ مئة دولار، موهِمين «الثوار» المفترَضين، أن سعد الحريري مغلوب على أمره ما اضطره على الموافقة على حكومة فيها حزب الله والتيار الحر..
هذا التحشيد الطائفي، شمل أيضاً مشاركة من حزب القوات اللبنانية بشكل عاد فيه منظمو التظاهرة الى استعمال الشعارات الوطنية وضرورة استقالة الرئيس ميشال عون ورئيس المجلس نبيه بري، على أن تليهما إعادة تشكيل للحكومة وإعداد قانون انتخاب جديد مع انتخابات مبكرة، وانتخاب رئيسين جديدين للجمهورية ومجلس النواب.
يُظهر هذا الوضع تبايناً بين الساعين الى تشكيل حكومة جديدة على حساب قواهم النيابية الفعلية مثل التيار الوطني وحزب الله وحركة أمل وبين الحريرية السياسية التي تريد إعادة الإمساك بالبلد من خلال الاستثمار بالحصار الاقتصادي الأميركي على لبنان، وبين فئات مرتبطة بالأميركيين والخليجيين، يدفعون نحو انهيار كامل سياسي واقتصادي، لضرب معادلة التيار ـ حزب الله بشكل كامل على أساس أنها جزء من حروب الخنق الاقتصادية الأميركية على العراق وسورية ولبنان واليمن.
هذا لا يمنع القوى الداخلية اللبنانية من الاستثمار إنما من خلال خطة التدمير الكاملة وليس الجزئية.
فالأميركيون يُصرّون على استئصال كامل لحزب الله من معادلة السياسة الداخلية في لبنان، بما يؤدي الى إنهاء دوره الأساسي في توفير الاستقرار الوطني مع حلفه المعقود مع الرئيسين عون وبري وأحزابهما وتحالفاتهما.
لقد أدّى هذا التعاون الى بناء هذا الاستقرار الوطني منذ 2006 وحتى 2019، من دون أن ينجح في بناء استقرار سياسي، والسبب كالعادة، هو تحالف فئات سياسية في إطار نظام سياسي طائفي.
لكن حزب الله نجح في بناء معادلة ذهبية تقوم على الشعب والجيش والمقاومة أمّنت مناعة وازنة للاستقرار الأمني اللبناني وطردت الإرهاب من سورية ولبنان، ما وطّد الاستقرار الداخلي والشعبي اللذين استولدا الاستقرار الوطني وما أن حاول الحزب الانتقال الى مرحلة تطهير التفاعلات السياسية مما يشوبها من أكبر عملية فساد سياسي دمّر المال العام متسبباً بانهيار اقتصادي كارثي حتى احتمت قوى الفساد بآلياتها الدينية من مطارنة ومفتين وشيوخ عقل لحماية أدوارها ومنع كشف ما تقترفه من تراكم فساد هائل.
صحيح، أن الحزب لم يكمل المعركة خشية الدفع نحو صداقات أهلية مذهبية او طائفية، لكنه حافظ على ذهبيته الثلاثية، المانعة للاعتداءات الإسرائيلية وتطوّر الإرهاب.
بالمقابل، استغلّ الأميركيون حراكاً شعبياً مطلبياً، مندسّين فيه عبر آلياتهم الداخلية من أحزاب مستقبل واشتراكي وقوات، دافعين نحو إنتاج ثلاثية جديدة بقوة «الخنق الاقتصادي» الذي يمارسونه على لبنان وعبر الاستفادة أيضاً من الانهيار الاقتصادي اللبناني الذي تسبّبت بمعظمه مرحلة الحريرية السياسية منذ 1992 وحتى الآن.
تقوم المعادلة الجديدة على ثلاثية جديدة ـ قديمة هي الطائفيّة سمة النظام السياسي ونفوذ «القناصل» الأميركيين والخليجيين بديلاً من المقاومة، والمصارف بديلاً من الشعب.
فيصبح الصراع كامناً بين شعب وجيش ومقاومة هي الثلاثية الذهبية وبين طائفية وقناصل ومصارف، بدعم إقليمي ودولي مفتوح هي معادلة الحريرية ـ الأميركية ـ الخليجية المطلوب منها إلغاء دور المقاومة والترويج للحياد في الصراع العربي الإسرائيلي، وتأييد الحلف الأميركي الإسرائيلي الخليجي ضد إيران.وهكذا تتصارع معادلة ذهبية يدعمها منتصرون في حروب لبنان والإقليم مع معادلة تنك صدئ وغير قابل للتنظيف، لأنه يروِّج لاستعمار مهزوم ودول لا تزال تقبع في القرون الوسطى ورقصة العرضة ومسابقة أجمل بعير.
(البناء)