مؤتمر باريس وتعويم الحريري
غالب قنديل
خلال الأسبوع الماضي تلاحقت التصريحات الأميركية والفرنسية التي تعلن التزام كل من فرنسا والولايات المتحدة بمساعدة لبنان على احتواء نتائج الانهيار الاقتصادي والمالي واستعدادهما للمساهمة في ترتيب ضخ اموال تسهم في إسعاف النظام المصرفي والمالي وتمهد بذلك لمباشرة تنفيذ سلة سيدر بقروضها ومشاريعها التي تمثل فرصة لإدخال الشركات الغربية في صلب ملفات خصخصة الخدمات العامة التي طرحها الرئيس المستقيل سعد الحريري في ورقته الاقتصادية التي أقرها مجلس الوزراء عشية استقالته الموقوتة.
أولا عقب تفاقم الأزمة وتدحرج الأسماء المرشحة لخلافة الحريري في مداولات التكليف التي احرقت اوراق كل من الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة وقبيل موعد الاستشارات المقررة لتسمية مرشح الحريري البديل المهندس سمير الخطيب جاء إعلان السلطات الفرنسية عن توجيه الدعوات الرسمية لعقد مؤتمر جديد لإسعاف لبنان ماليا بضخ سيولة مالية جديدة في عروق يابسة استنفذتها حلقة المديونية والفوائد المرتفعة وأعراض الاختلال الاقتصادي والمالي في بلد سحقت قطاعاته الإنتاجية وبات يعتمد على تحويلات أبنائه العاملين في الخارج التي خنقها الركود العالمي وطوقتها العقوبات الأميركية بينما حبست صادراته وتسهيلات نقلها إلى الجوار بضغط سياسي اميركي يعيق أي محاولة انفتاح على سورية والعراق وسائر دول الشرق الكبير الخارجة عن السيطرة الأميركية.
ثانيا شارك الرئيس سعد الحريري شخصيا في تقديم طلبات الإغاثة المالية الدولية عبر اتصالات تولاها فجأة وقطع بها استنكافه عن تصريف الأعمال الحكومية وترك الحبل على الغارب بيد المصارف والتجار الذين عززوا مكاسبهم وزادوها باستثمار الأزمة على حساب الناس متوسطي الحال والفقراء الذين هزهم القلق على مصير ودائعهم وكوتهم موجة غلاء فاقمت ضيق الحال بعد تآكل القدرة الشرائية نتيجة تراجع سعر العملة الوطنية الحقيقي في الأسواق وخسارتها ما يتخطى ربع قيمتها ومع تحكم الاحتكارات التي تمسك بكل شاردة وواردة من وجوه حياة اللبنانيين وبينما تراجع الموج العفوي للانتفاضة توزع الحراك إلى حراكات محدودة تواكبها وتضخمها الشاشات لترسم لها حجما افتراضيا يوفر حضورا منظما للضغط المنسوب إلى الشوارع التي توزعت حسب المناطق والطوائف تحت عباءة موحدة وبهويات مكتومة.
ثالثا جرى توقيت حرق ورقة ترشيح المهندس سمير الخطيب وتم إخراجه من دار الفتوى بتصريح نقل فيه الخطيب عن المفتي دريان إجماع الطائفة حول الحريري وهو ما استنكره اللقاء التشاوري الذي لم يقصر في دعم الحريري سابقا وانتقاد الرئيس ميشال عون بذريعة تحصين صلاحيات الرئاسة الثالثة.
فرض ما جرى تأجيل الاستشارات أسبوعا جديدا وانجلى صخب التوقعات عن تعويم الحريري كمرشح وحيد لتشكيل الحكومة والمفارقة ان ذلك هو ما كان يسعى إليه في المداولات كل من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر الذين اصطدموا بتعنت الحريري في شروطه المتعلقة بتركيبة الحكومة الجديدة وهي نسخة عن شروط أميركية أعلنت صراحة على لسان أكثر من مسؤول كما رددتها مراكز الدراسات والتخطيط من واشنطن وقد توخت إضعاف حضور المقاومة وحلفائها في معادلة القرار مع التصميم على الانتخابات المبكرة لتسييل حصاد الخضة المالية والسياسية في توازن المجلس النيابي الذي فرضته انتخابات العام الماضي لتكوين غالبية جديدة.
رابعا كشفت مفاوضات التكليف التي جرت مع الحريري ومرشحيه الثلاثة المنتدبين بالوكالة تباعا استعصاء التوازنات السياسية امام جموح الانقلاب الأميركي رغم قابلية ثلاثي امل وحزب الله والتيار الوطني الحر للتكيف مع وصفة التكنوقراط التي صمم عليها الحريري منذ البداية بينما برهنت مسيرة الأخذ والرد حول التكليف على الحدود الممكنة لاستثمار الحراكات التي انبثقت عن الانتفاضة المخطوفة والتي جرى توظيفها لضمان عودة الحريري بعد استقالته رغم احلام من رفعوا سقوفهم العالية من الساحات عن تغييرات متخيلة تنوعت طبعاتها وتعددت بحجم ما تعكسه التركيبة السياسية الحراكية من تباينات وتناقضات فجرها الإعلان عن اعضاء هيئة تنسيق الثورة التي اتهمها حراكيون آخرون بمحاولة “خطف الثورة” وتناولوا علاقات بعض الشخصيات بأطراف في السلطة السياسية.
خامسا فرض مخاض الأسابيع الماضية عودة الغرب إلى واقعية المساكنة مع رسوخ حقيقة العجز عن قلب الطاولة بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية والتداعيات الخطيرة المحتملة بما فيها من عوامل تثير خشية أوروبا من موجات نزوح جديدة وقلق كل من الولايات المتحدة وفرنسا والغرب برمته من تفاعلات ميدانية قد تهدد امن الكيان الصهيوني المسكون بالقلق الوجودي من تعاظم قدرات المقاومة ومحورها.
حصاد الغرب سيكون بتجديد شروط الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية مقابل الإنعاش الطارئ بينما هو يسعى فعليا لإدخال فريقه الحراكي إلى نادي السلطة السياسية تحت شعار التكنوقراط ويافطة الخبراء بهدف إجراء تطعيم لبنى النخبة الحاكمة المستهلكة وتحضير اجواء الانتخابات النيابية القادمة في حين سيعلن من مؤتمر باريس دفتر شروط مالي واقتصادي وسياسي يفرض على الحكومة الجديدة التقيد به لقاء جرعات الإنعاش المالي.