مقالات مختارة

خطة تحرير فلسطين بين وصفي التل وأكرم زعيتر- معين الطاهر

 

منذ نكبة احتلال فلسطين في العام 1948، وما قبلها وما بعدها، لم ينجح العرب يومًا في رسم خطة لتحرير فلسطين، فيما احتلت فلسطين وقضيتها البند الأول في أجندة أي نظام عربي، تقدميًا كان أم رجعيًا، وفق التصنيفات السائدة حينها. ولكن قيمتها الحقيقية انحصرت في استخدامها ضدّ خصومها من الأنظمة الأخرى التي لا تسير في ركابها، أو في قمع خصوم الداخل، ومنع أي تقدّم أو تغيير أو حرية في بنية الدولة القُطرية، بحجة أن الأولوية هي للمعركة المصيرية، وما دون ذلك انحراف وخيانة، ومبرّر لتصفية الخصوم.

 

أكد الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، في عام 1964، أمام حشد فلسطيني في غزة، أنه لا توجد لديه خطة لتحرير فلسطين. وقال “أي واحد النهار ده بقول عندي خطة لتحرير فلسطين يبقى بضحك عليكم”. وكرر العبارات ذاتها في افتتاح جلسات المجلس الوطني الفلسطيني الثاني في القاهرة (مايو/ أيار 1965). وفي هذه التصريحات، ضرب الرئيس عبد الناصر أكثر من عصفور بحجر؛ بدءًا من شعارات حرب التحرير الشعبية التي بدأ حزب البعث في سورية بإطلاقها، إلى المبادرة السابقة للرئيس العراقي، عبد الكريم قاسم، قبل إطاحته في العام 1963، والداعية إلى تشكيل جمهورية فلسطينية، والبدء بتدريب نواة ما أطلق عليه اسم “جيش التحرير الفلسطيني”، بالتعاون مع الهيئة العربية العليا ورئيسها الحاج أمين الحسيني. ولكن الهدف الأكبر المقصود كان في ما أُشيع عن وجود مخطط لتحرير فلسطين، أعدّه رئيس الوزراء الأردني، وصفي التل، وسُرّبت نسخٌ منه إلى بعض الدول العربية.

ما هي قصة هذا المخطط الذي لم يُنشر بجميع تفصيلاته؟ وإن كان السياسي الفلسطيني، والوزير الأردني، أكرم زعيتر، وسياسيون آخرون قد أشاروا إلى وجوده. واليوم، يسعى فريق من 

استخدمت الأنظمة العربية قضية فلسطين ضدّ خصومها من الأنظمة الأخرى التي لا تسير في ركابها، أو في قمع خصوم الداخل

الباحثين، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إلى البحث عنه بين آلاف الأوراق التي تركها زعيتر الذي يشير بوضوح إلى امتلاكه نسخة كاملة من هذا المخطط، نقلها معه من مكان إلى آخر، وعرضها على مسؤولين من أصدقائه، مع التوصية بالكتمان.

كان زعيتر متردّدًا في العمل في السلك الحكومي في الأردن، واعتذر عن ذلك أكثر من مرة، منذ نهاية الخمسينيات، حيث اعتبر ذلك أمرًا لا يليق به، وهو المعارض التاريخي، إلى أن طلب منه وصفي التل أن يكون سفيرًا في سورية، بعد انفصالها عن دولة الوحدة في العام 1961، وتولي الحكم فيها أصدقاء أكرم زعيتر القدماء، أيام العمل القومي. وجدير بالذكر أن زعيتر بقي محتفظًا بالجنسية السورية حتى عام 1957، وتنازل عنها في ذلك العام الذي عاد فيه شكري القوتلي وصبري العسلي إلى الحكم، عندما اعتبر أكرم أنهم تناسوه وتنكّروا له، فقرر الالتحاق بالعمل العام في الأردن.

بعد مقتل وصفي التل في القاهرة في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1971، كتب أكرم زعيتر مقالات عدة في صحيفتي الرأي والدستور الأردنيتين (بدءا من 9 يناير/ كانون الثاني 1972)، إضافة إلى مقدمة كتابٍ تضمن كلمات حفل التأبين للتل الذي أُقيم في عمّان، وأشرف عليه خليل السالم. تضمنت المادة المنشورة في حينه حديثًا مستفيضًا عن خطة تحرير فلسطين، كاشفًا أن السر في تأخر التحاقه بعمله سفيرًا في سورية كان استجابته لدعوة وصفي للمشاركة في إعداد خطة لتحرير فلسطين، تعتزم الحكومة الأردنية إعدادها، باعتبارها فرصةً جديدةً تتيح لزعيتر العمل من أجل فلسطين. ولذا مُنح غرفة في رئاسة الوزراء، وعكف شهرين على إعداد “النواحي المبدئية والسياسية والثقافية، والقواعد العامة، والمفاهيم العربية .. مسودة الميثاق العام للمخطط”. فيما راح وصفي التل “يضع الخطة العسكرية، ويستعين بالمستشارين العسكريين، ويراجع التقارير عن القدرات العسكرية العربية، ويطالع ما كُتب عن عسكرية العدو واستراتيجيته”. ليُجيب “المخطط المفصل على سؤالين: أولهما، ماذا يصنع الأردن إذا استقل هو بالمعركة، وهذه ممكناته، وهذا قدره؟ وثانيهما، ماذا يكون إذا غدت المعركة عربية عامة؟”. وبعد شهرين من العمل على المخطط وتنقيحه، طُبع عدد محدود من النسخ، احتفظ زعيتر بواحدة منها.

كانت هذه رواية أكرم زعيتر المتأخرة حول مخطط تحرير فلسطين، لكنه في يومياته التي تغطي المرحلة بين عامي 1949 و1966، والتي ستصدر قريبًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان “آمال الوحدة، وآلام الانقسام”، يروي رواية مختلفة بعض الشيء.

في اليوميات، تبدأ الحكاية في لقاء ضم أكرم زعيتر مع وزير الخارجية الأردني حازم نسيبة، بحضور الشريف عبد الحميد شرف (وزير البلاط ورئيس الوزراء لاحقا). تحدّث نسيبة عن مخطط أعدّته الحكومة لإنقاذ فلسطين، ويقضي بأن يكون الأردن المنطلق للتحرير، وذلك بموافقة العرب، ودفعهم 20 مليون دينار لتسليح القرى الأمامية. في ذلك الوقت، كانت فكرة الكيان الفلسطيني قد بدأت تُثار، فاقترح الوزير أن ذلك يُحَلّ بتسمية المملكة الأردنية “باسم مملكة الأردن وفلسطين، بحيث يكون الأردن هو الكيان الفلسطيني المنشود”، وهي فكرةٌ تمت استعادتها في مارس/ آذار 1972، حين أعلن ملك الأردن، الحسين بن طلال، في خطاب له، إجراءاتٍ مزمعةً لتنظيم البيت الأردني – الفلسطيني، تتضمن إعلان المملكة العربية المتحدّة من قطرين.

جادل زعيتر في أن هذا المشروع تعترضه عقبات، منها فقدان ثقة الدول العربية في الأردن، معتبرًا أن تغيير التسمية كان سيكون فكرة موفقة “لو اختير لها الزمن المناسب. أما الآن، فلن يفسّر إلا شروعًا بتصفية القضية الفلسطينية، وللحيلولة دون إيجاد الكيان الفلسطيني”. لم يقوَ نسيبة على مجادلة زعيتر، فاتصل بوصفي التل ليسأله عن إمكان إطلاع أكرم على المخطط. وهكذا، تم ترتيب اجتماع خاص لذلك بين زعيتر والتل.

في الموعد المحدد، بتاريخ 20 /6 /1962، قال التل إنه سيزوّد أكرم بالمخطط يوم السبت المقبل “لإبداء الرأي وللإضافة والحذف”. كان الحديث عن المخطط قد شاع وانتشر، فاحتج أكرم أن “الأصل في المخطط أن يكون سرّيًا، ولا أدري كيف كثُر الحديث عنه؟ وكيف قلتم إنكم ستحدّثون النواب عنه؟ وكيف يصح أن يعلن العرب للعدو خطتهم؟”، فأقرّ وصفي ذلك، وقرّر العدول عن فكرة إطلاع النواب على أي جانب منه.

تأخر اللقاء الثاني إلى تاريخ 16 /7 /1962، حيث قال التل إن “ما يستطيع أن يعطيني منه هو نصفه، لأن النصف الثاني يحتاج إلى إعادة نظر من قبله، وفيه الخطوط الأساسية النظرية. 

كشف زعيتر أن السر في تأخر التحاقه بعمله سفيراً في سورية كان استجابته لدعوة وصفي التل للمشاركة في إعداد الخطة

وأن النصف الثاني فيه الشروح العملية، وهو يطلب مني أن أنظر فيه، معدّلًا، منقحًا. وإذا ارتأيت، فلي أن أصوغه ثانية بقلمي. فقلت له: إن الألفاظ لا تهمني، وفي الإمكان تصحيح عبارات المخطط بحيث تخلو من الأغاليط النحوية، ولكن الذي يهمني هو الموضوع ذاته. لي آراء في الموضوع أريد أن أبديها. قال: لك ذلك. ولك أن تعدّل. فقلت له: إذا كان التعديل الذي أرتئيه أساسيًا، فإنني سأسجّله على ورقة مستقلة. وما أراه هو أن أقدّم مذكرةً هي تعليقي على مخططكم بعد دراسته. ثم قال: إن القسم العسكري من المخطط هو الأهم، وقد اعتنيت به كثيرًا، فجاء كاملًا متقنًا يعجبك كثيرًا، وقد وضعته مفترضًا أن الدول العربية معنا وستساعدنا، ووضعته مفترضًا أننا سنكون وحدنا، أي أنني قدّرت جميع الاحتمالات، ويهمني أن أطلعك عليه بعد أن أكون قد أنجزته. فأجبته: “أرجو أن يكون كما قال عنه، ولكنني لا أستطيع أن أقول كلمتي فيه قبل دراسته“.

بعد ذلك بأيام، وفي يوم 22 يوليو/ تموز، التقى زعيتر حازم نسيبة، وأطلعه على ما عدّله فيه، وما اقترح حذفه منه، سيما “العبارات التي لا تليق بأن تكون في مخطط رسمي للإنقاذ فأقرّها كلها. وقد أطلعني على الصورة الأصلية التي اقترحها للمخطط، فإذا بها تختلف كثيرًا عن تلك التي أقرّها السيد التل”. و”ما يشغل بال الدكتور حازم هو إثارة موضوع الكيان الفلسطيني، وهو يعتقد أن إثارة هذا الموضوع يُقصد بها النكاية والإحراج للأردن. كما يرى أن على الأردن أن يعمل على أن يكون هو الكيان الفلسطيني المقترح. وقد أفهمته أن هذا الاقتراح فات أوانه، أو أنه لم يأتِ أوانه، لأن الجو بين الأردن والقاهرة سيئ، ومثل هذا الاقتراح سيكون منبع اتهام للأردن بتصفية القضية، وأن الرأي هو ألا يعارض الأردن قيام كيان سياسي للفلسطينيين، وأنه لا توجد دولة عربية واحدة الآن تجرؤ على أن تقول للأردن تخلَّ عن الضفة الغربية، لأنه لا توجد دولة عربية واحدة تزعم، حين الجدّ، قدرتها على حمايتها“.

في اليوم التالي، تجدد اللقاء مع وصفي التل، و”رحت أشرح له رأيي وتنقيحاتي، وإضافاتي وتعديلاتي، في القسم الأول من المخطط المعدّ لقضية فلسطين، فناقشني في بعضها، ثم سلّم بوجهة نظري فيها كلها. وقد تمكنت من حذف كل كلمة نابية أو هجومية على الغير، ومن حذف كل مبالغة في المزاعم الأردنية حول القوة العسكرية، ومن إضافة كثير من الفقرات والعبارات والكلمات التي ارتأيت ضرورتها. كما وضعت تحفظات لبعض الآراء التي تحتمل المناقشة سلبًا وإيجابًا. وقد لفت نظري بعض “تحشيات” بالقلم الرصاصي على صورة إضافات، وكنت قد حذفت بعضها، وعدّلت بعضها، وقوَّمت لغة البعض الآخر منها. وكنت أظن أن هذه التحشيات أو الإضافات هي بخط السيد التل، ولكنني علمت أنها بخط الملك حسين نفسه، وأنها هي آراؤه الخاصة، على أن هذا لم يمنعني من تصحيحها، وحذف ما ارتأيت حذفه منها. ثم أعطاني السيد التل بقية المخطط، وهو ضعفا القسم الأول، ثم قال: “افعل فيه ما تشاء، وأضف إليه ما تشاء، واحذف منه ما تشاء، وعدّل ونقّح، وسيكون قولك الفصل، ورأيك هو النهائي. ولك أن تعدّ نفسك أنت صاحب المخطط وواضعه. وقد تركنا لك أن تضع أنت القسم السياسي من المخطط مستقلًا‘. ثم قال: ’إن هذا المخطط هو من وضع الملك ووصفي ووضع حازم، والآن نقول إنه من وضعك أنت أولاً‘”.

في تاريخ 16 /8 /1962، تجدّد اللقاء مع وصفي التل، “وأخذت أتلو عليه المخطط الأردني لإنقاذ فلسطين، بعدما صحّحت ما وضعه غيري، وبعدما وضعت أنا ما يتعلق منه بالشخصية الفلسطينية، وبركائزه السياسية والشعبية والمالية، ولم يعترض السيد التل على شيءٍ مما حذفت أو أضفت أو صحّحت، بل كان ما وضعته عن الشخصية الفلسطينية موضع إعجابه، حتى قال لي: 

واقعة تبقى كمنارة تلحّ في سؤالنا نحن اليوم حول خطتنا لتحرير فلسطين

لقد وضعت متراسًا يتقي به الأردن كل هجمة من متحامل أو سيء الظن. وأبدى إعجابه بالركيزة السياسية قائلًا: وهذا كل ما يمكن أن يُقال. وأنت أدرى في ما يجوز ولا يجوز، والأمر كله موكول إلى رأيك”. وقد حدث بالفعل أن جاء الملك، فسأل زعيتر عن صحته وحاله، فقال له: “أدعو لك بطول العمر”. فأجابه ضاحكًا: “الحياة الأفضل أم الفضلى؟”. وهنا يضيف زعيتر: “فتذكّرت أنني كنت حين مراجعتي مخطط قضية فلسطين رأيت بخط الملك تعليقات، وفي إحداها وردت عبارة “الحياة الأفضل”، فصلّحتها بالحياة الفضلى”. بذلك يظهر أن الملك كان قد اطلع على تصحيحات زعيتر، وهو ما أكده له وصفي التل لاحقًا.

نخلص من يوميات أكرم زعيتر إلى أن مسوّدة هذا المخطط كانت موضوعةً عندما التحق زعيتر بالعمل الحكومي، وأن من كتبها هم حازم نسيبة ووصفي التل والملك حسين، وأن دور أكرم كان تجويد المقترح وإغناءه بملاحظاته، وإضافة فصلين يتعلقان بالعمل السياسي العام والشخصية الفلسطينية. ويبدو أن تقريظ التل لزعيتر، وقوله له، بعد تصويباته المتعدّدة للمقترح الأصلي، أن هذه المخطط قد أصبح من إعدادك أنت أولًا، قد دفعه، في مقالاته اللاحقة، إلى نسْب القسم السياسي كاملًا إليه، في إعادة لسرد التاريخ، وقراءته بأثر رجعي، وهو ما لا يميل إليه المؤرخون الذين يفضلون قراءة الحوادث التاريخية من مصادرها الأصلية، ومنها اليوميات التي تُكتب في وقتها.

مثّل هذا المخطط كلمة السر لالتحاق أكرم بالحكومة الأردنية وزيرًا للخارجية، في عام 1966، إذ إنه حين رفض المشاركة في الحكومة، ذكّره وصفي التل بأن هذا التكليف هو للبدء في تنفيذ الخطة التي ساهم زعيتر في وضعها. ولكن زعيتر سرعان ما خرج من الوزارة في أول تعديل وزاري لها، وربما كان خروجه بمثابة إشارةٍ إلى تعثر تنفيذها.

ويبقى القول إن هذا المخطط، على ما فيه من جهد، وفي غياب موقفٍ عربي موحد، لم يُكتب له الخروج إلى النور، ولم ينجح الأردن حتى في تسليح القرى الأمامية، فضلًا عن الطموح بإنقاذ فلسطين كلها، وهي مسؤولية العجز العربي بأسره. ولكن هذه الواقعة تبقى كمنارة تلحّ في سؤالنا نحن اليوم حول خطتنا لتحرير فلسطين، أو على الأقل لوقف التدهور في الموقف الفلسطيني والعربي والراهن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى