خيار الحريري… أصل المشكلة والحلّ: نقولا ناصيف
النقطة الصفر هي القاسم المشترك لجهود تأليف الحكومة. ظاهرها المرشح سمير الخطيب، وباطنها اصل المشكلة والحل الرئيس المستقيل سعد الحريري. ليس في تصوّر احد ان العلة في المرشح، بل في استعداد الحريري للتعاون مع حكومة لا يكون على رأسها
ما ان يُوحى باقتراب انتهاء المأزق الحكومي، تنشأ مشكلة تعيد الجميع الى النقطة الصفر. الانذار الجديد، وهو ليس اول الانذارات ولا آخرها، كلام النائب محمد رعد الاحد بأن الحكومة الوحيدة المقبولة هي حكومة الوحدة الوطنية تبعاً لاتفاق الطائف، مع ان الاتفاق لم يتحدث سوى عن حكومة وحدة وطنية واحدة، تؤلف بعد انقضاء سنتين على ادماج الاصلاحات السياسية في الدستور كي تتولى مع الحكومة السورية اعادة انتشار القوات السورية في لبنان. ما خلا هذا البند، لا ذكر في اتفاق الطائف لحكومة وحدة وطنية، ولا يشترطها ولا حتماً يثبتها تقليداً. الاصح ان يُعزى هذا الشرط الى اتفاق الدوحة عندما توالت حكومات الوحدة الوطنية منذ اولاها عام 2008 الى اليوم، بلا استثناء.
ما يكاد يكون واضحاً تماماً ان العودة الى السرايا لا تبرح رأس الرئيس سعد الحريري. ما يريده ان يستنجدوا جميعاً به، لا ان يطلب منهم تلك العودة. وهو مغزى استقالته في 29 تشرين الاول والمواقف التي اعقبتها.
اكثر من سبب يبرر، ربما، حجة قائلة ان المطلوب اولاً الاتفاق الفعلي، غير المناور ولا المتلاعب، على الرئيس المكلف قبل الذهاب الى الاتفاق على تأليف الحكومة. لا يحتم ذلك بالضرورة اولوية اجراء الاستشارات النيابية الملزمة، وليست هي الآلية الكفيلة بتأليف الحكومة منذ بات، بعد اتفاق الدوحة، تأليف الحكومات حصصاً ومقاعد وحقائب يخضع للاتفاق السياسي خارج الدستور الذي يكرّسه لاحقاً. لا المرشح سمير الخطيب نهائي، ولا استبعاد خيار الحريري نهائي، ما يجعل حظوظ التكليف والتأليف متساوية صفراً كما مئة في المئة:
1 – حتى استقالة الحريري، لم يكن ثمة شارع سنّي غاضب في طرابلس وفي البقاع الاوسط، والبارحة حمل هذا الشارع لافتة اسقاط رئيس الجمهورية. منذ بداية الحراك الشعبي، كان الغاضبون السنّة في بيروت طرابلس وعكار وصيدا خارج تيار المستقبل، وجزءاً لا يتجزأ من الحراك كما من شعاره «كلن يعني كلن». على ان الاستقالة شقّت الطريق امام شارع سنّي آخر بلافتاته وشعاراته وصراخه، يتبنى كل ما يدلي به الحريري، ما احال تيار المستقبل – كما من قبل حزب الله وحركة امل والتيار الوطني الحر – شارع اضافياً في مواجهة شارع الحراك الشعبي. لم يعد تيار المستقبل يخفي انخراطه في لعبة الشارع.
ليس سراً ما سمعه زوار الحريري عشية تنحيه، يقول ان الشارع السنّي المناوىء له في ساحة عبدالحميد كرامي في طرابلس – معظمه من التيارات الاسلامية – كان يُقدّر بـ12 الفاً حداً اقصى، قبل ان يفاجأ بأن الساحة استقبلت اكثر من 30 الفاً، من بينهم انصاره ومحازبوه، قبل ان يستنتج: هل اقف اتفرج على افلات هؤلاء مني؟
الآن اضحى الشارع السنّي الجديد من اسلحة العودة الى السرايا.
2 – قد لا تكون ذريعة قليلة الاهمية ان الشارع السنّي يرفض التمثّل في الحكم بشخصية بمواصفات الخطيب، في وقت يتمثل المسيحيون بالرئيس ميشال عون والشيعة بالرئيس نبيه برّي. الحريري ندّ الاثنين وشريكهما الثالث في توازن السلطات الدستورية وتوازن تمثيل الطوائف. مرور الوقت عبر تداول اسماء مرشحين محتملين للتكليف جعل اصرار الشارع السنّي على الحريري اكثر صلابة وتبريراً، وضاعف من تواتر العقبات والعراقيل في طريق كل خليفة محتمل له. ناهيك بأن الرجل يجاري اللعبة هذه، كي لا يقال انه يقودها بالفعل من اجل تكريس التوازن المفقود. لعل احجامه عن منح الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة وثالثهما الخطيب كل التعهدات اللازمة لتوفير التغطية السنّية التي كانوا يطلبونها، خير دليل على ان الحريري يجرّب المرشحين واحداً تلو آخر، ويتركهم يسقطون في الطريق من تلقائهم، من غير ان يفصح عن انه سبب تهاوي خياراتهم.
3 – ما يعرفه الحريري تماماً ان لحزب الله مصلحة جوهرية لا مناص من التمسك بها في كل حين، هي ابعاد النزاع السنّي – الشيعي عن المشكلات الداخلية. لا احد من بين نظرائه رؤساء الحكومات السابقين يسعه ان يشكل مانعاً حقيقياً في وجه هذا النزاع. تيقن الحريري من هذا الهاجس مكّنه من الاصرار على تصلبه. هي ايضاً الذريعة التي حملته على التنحي رغم الكثير الذي سمعه من برّي ومن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله برفضهما استقالة الحكومة. مع ذلك اختبر الحريري هذا التشبث مرتين، عندما استقال ثم عندما اعتذر عن عدم ترؤس الحكومة.
على مر ذلك الوقت طرحت الاسماء الثلاثة، ودائماً كان الثنائي حزب الله وحركة أمل يؤكد – وإن في ظل تداول اسمائهم – تمسكه بالحريري رئيساً مكلفاً. الكلام نفسه لا يزال دائراً حتى اللحظة. اغضبت الاستقالة برّي بعدما سمع من الحريري العبارة الآتية: «شراييني معلقة بشرايينك». الا انه فاجأه بها. باغت ايضاً الحزب ورئيس الجمهورية، في وقت كشفها للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي خابره قبل نصف ساعة من اعلانه الاستقالة مستطلعاً الوضع اللبناني، فأخطره بما سيفعل.
4 – في معظم احاديثه مع زواره، لم يقل مرة امامهم، في العلن على الاقل، انه مع اخراج حزب الله من الحكومة، بينما أكثَرَ من الاشادة بالوزير محمد فنيش. ليس كذلك في وارد إغضاب رئيس المجلس بالقول بإخراج معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل من الحكومة، على غرار اولئك الذين يحبذ طردهم من اي حكومة قد يؤلفها. لذا من غير المستبعد مجاراته حكومة تكنو – سياسية بمقادير محددة، من شأنها المحافظة على التوازن السياسي الحالي، ليس القائم بفعل انتخابات 2018، بل مذ كرّسه اتفاق الدوحة. على نحو كهذا يضمر في السر غزلاً مماثلاً لغزل حركة امل وحزب الله المعلن له.
5 – تسرّ الحريري حاجة الشارع السنّي اليه، وتمييزه عن سائر اولئك الذين يدينهم الحراك الشعبي ويتهمهم بالفساد والاختلاس واهدار مال عام. لم تُسَق اليه اتهامات كتلك، ولا يزال شارعه السنّي ينظر اليه كأن شيئاً لم يحدث في الطائفة، ولا يزال يعدّه الاقدر على معالجة التدهورين الاقتصادي والنقدي من خلال شبكة علاقاته الدولية، رغم الاخفاق المذهل للرجل في ادارة شركاته ومؤسساته الخاصة، الى حد التسبب في افلاسها. بيد ان خصومه السياسيين والقوى المتشددة في الحراك الشعبي تحسبه جزءاً لا يتجزأ من موبقات الطبقة السياسية، وشريكاً رئيسياً لها.
لعل المثير للعجب ان جانباً من التفاوض الدائر من حول الخطيب كواجهة للحريري، او من حول الحريري بالذات، يرسل اليه اشارات ايجابية ومطمئنة، بابداء الحرص على المكاسب المالية و«البزنس» السياسي له من خلال ابقاء حقيبتي الداخلية والاتصالات في عهدته، وعدم مس مجلس الانماء والاعمار والهيئة العليا للاغاثة واوجيرو ومرفأ بيروت وسواها، او تعريضها الى اي ضغوط او قيود في الحكومة الجديدة.
(الاخبار)