ملامح «جمهوريّة لبنانيّة ثالثة» أسوأ من سابقتَيْها: د. وفيق إبراهيم
بدأ اليأس يضرب فئة كبيرة من اللبنانيين كانت تعتقد أن الانتفاضة الشعبية آخذة البلاد نحو دولة مدنية وديموقراطية أو تؤسس لها في مقبل الأيام.
لكن ما يحدث اليوم من سيطرة القوى الطائفية على حراك اللبنانيين، وتوجيهها له نحو استهداف أحزاب وطنية لها أدوار تاريخية ضخمة في الدفاع عن لبنان والقضاء على الإرهاب، يرفع من معدلات التشاؤم الى حدود التخوّف من مشروع لتشكيل جمهورية لبنانية ثالثة قابلة للالتحاق بالمشروع الخليجي الإسرائيلي بمظلة أميركية، فبدلاً من حصر أمن الملاحة بالخليج والبحر الأحمر فيتمدد ليشمل أمن الملاحة في البحر المتوسط ايضاً وهو اقرب الى الكيان المحتل.
بداية لا بأس من الاعتراف بأن القوات اللبنانية لصاحبها سمير جعجع نجحت في التسلل الى حراك اعتقدت إدارته السرية بقدرتها على الاستثمار في خدمات جعجع التخريبية، المفاجأة كانت في نجاح «القوات» في تسيير التظاهرات وفق «خطتها» وطموحاتها.
بدوره الوزير وليد جنبلاط طبّق في الأسابيع الثلاثة الاولى للحراك سياسة التحريض غير العلني و»التويترات» الملتبسة مع حرص على تقديم نفسه متمسكاً بالأمن الوطني.
وما أن استشعر اندفاعة حريرية للاستثمار في الانتفاضة حتى اندفع كالسيل، مؤكداً أنه أب الحراك وأمه، فهو تقدمي واشتراكي واقطاعي وطائفي في آن معاً وبوسعه تظهير الصفة التي يحتاجها حسب تطورات المواسم السياسية.
فهذا هو جنبلاط وما على الجميع إلا التكيّف مع اضطراباته المزاجية المرتبطة برادارات مفتوحة دائماً على خط واشنطن الخليج وأكثر ممتلكاً الكثير من «الانتينات» المفتوحة ايضاً على روسيا لاستعمالها وقت الحشرة، فالروس أصدقاء «البيك» من عصر السوفيات والشهيد كمال جنبلاط.
لكن اكتمال المشهد، تطلب قوة ثالثة وهي الحريرية السياسية، التي كمن قائدها الملهم سعد الحريري لتطور موجاتها، فاندسّ فيها مستعملاً تحريضاً مذهبياً طائفياً قلّ نظيره. مفاده أن الطائفة السنية خسرت رئيس حكومة استقال بطلب من الانتفاضة، في حين ان ميشال عون الماروني احتفظ بموقفه الرئاسي وكذلك رئيس مجلس النواب «الشيعي» الذي لم يبادر الى الاستقالة استجابة لشعار «كلن يعني كلن».
بهذه الطريقة التحشيدية نجح التسلل الثلاثي في فرض مشروعه على كامل الحراك الذي يريد إحداث فراغ سياسي واقتصادي يؤدي الى الانفجار، لكنهم تركوا فرصة لحلف عون حزب الله والرئيس بري تقوم على تشكيل الحريري لحكومة تكنوقراط وحسب هواه ومزاجه، وكأنه بذلك يطلب من الفريق الآخر إسقاط عهد بكامله، قام على توفير حزب الله للاستقرار الوطني، وإدارته تسوية بين «السعد الحريري» والوزير جبران باسيل راعت في معظم جوانبها قوة الرئيس بري وتجنبت إزعاجه.
لذلك فإن ما تطلبه القوى الثلاثية من خلال الإمساك بالحراك، إلغاء العهد العوني القوي بضرب راعي الاستقرار الوطني وهو سلاح حزب الله ودوره الحدودي والإقليمي، ونسف تسوية حريري باسيل.
هذا مشروعها فأين بديلها؟
يسعى الحلف الحريري الجنبلاطي الجعجعي لبناء استقرار لبناني يرعاه الأميركيون وبتسوية ترث حريري باسيل بالقوات الاشتراكي – المستقبل، كتسميات «مدنية» وجنبلاط – حريري – جعجع كزعامات حزبية و»حلف سني درزي مع قسم من المسيحيين»، وقد يتعثرون بشخصية شيعية على غرار صبحي الطفيلي أو إعلاميي آل الأمين فيضيفونهم الى ثلاثيتهم فتصبح كل نجوم الطوائف موجودة.
هناك اذاً نتيجتان: الأولى أن هذه القيادات استثمرت في حراك مدني وأعادته الى السلوك الطائفي والمذهبي، فيما تذهب الثانية الى التأكيد بأن الثلاثي نجح في تدمير الجمهورية اللبنانية الثانية. وهي جمهورية الطائف التي التهمها الراحل رفيق الحريري حتى آخر فلس فيها مع ورثته البيولوجيين والسياسيين، لذلك فهذه القيادات بصدد التحضير لجمهورية موز جديدة تراهن على حرب أميركية إسرائيلية خليجية على إيران وإسرائيلية على لبنان مع تجريد حزب الله من سلاحه.
وهذه الجمهورية الثالثة، بدعم من مخيلات الطائفيين اللبنانيين هي لبنان الأرز والعز والرز والخمسة آلاف عام وقصر المختارة وعبقرية معراب وبيت الوسط.
لذلك فهي ديموقراطية على طريقة آل سعود ومعادية للإرهاب الخميني على المسلك الأميركي وشديد التطور باستلهام التقدّم في الإمارات.
فهل هذا ممكن؟
الهجوم على لبنان كبير، وأصغر دليل عليه هو تأكيد الفرنسيين لقوى لبنانية أن عقوبات أميركية كبرى قيد التحضير على لبنان إذا لم توافق جميع قواه على حكومة تكنوقراط يترأسها الحريري وتنتقي بخبرتها العميقة وزراءها.
كما يجزمون أن بلاد الأرز الصامد لن تصمد أكثر من أيام عدة أمام العقوبات الأميركية وما على عون حزب الله – برّي إلا الانتحار السياسي.
هذه ملامح الجمهورية اللبنانية الثالثة التي تؤسس لحريرية سياسية جديدة بألوان جنبلاطية وجعجعية.
فهل هذا ممكن؟
يتمتع الحلف الداخلي عون – بري – حزب الله بقوة شعبية لا معادل لها في لبنان، لكنه فضل الانكفاء لاستشعاره بوجود كمين دولي إقليمي يعمل على حرب داخلية تؤسس لتدخل أجنبي، فانكفأ إنما مع مراقبة عميقة لتطوّر الانقلاب الحريري الجعجعي الجنبلاطي.
والمعتقد أن معادلة الرئيس عون قد تعمل على تحشيد شعبي مدني غير مسبوق يشمل محافظات البلاد بأسرها، وتكشف أن الجمهور الجعجعي يستفيد من عقلانية حزب الله وعون وبري وصبرهم وإحساسهم بالتآمر الخارجي.
لذلك فإن الأيام المقبلة من شأنها كشف هشاشة المشاريع الطائفية وإثبات قدرة عون – حزب الله على تحريك لبنان بوجه قوى تبيع طوائفها من أجل مصالحها ومصالح الخارج.
(البناء)