بقلم ناصر قنديل

خطوة إلى الأمام أو خطوتان إلى الوراء: ناصر قنديل

يستطيع كل متحمّس للرهان على أن الحراك الشعبي في لبنان يملك ذكاءً سياسياً يحول دون توظيفه في اللعبة الدولية والإقليمية والمحلية الدائرة بلا رحمة من حوله، أن يحشد ما يرغب به وما يستطيعه من أبيات الشعر للتغزّل ببراءة الثورة وتدفقها وقدرتها، وخلعاً للأسمال الطائفية والمذهبية البالية وذهابها إلى فضاء مدني رحب، وإصلاح اقتصادي ومالي ينهي الأيام السوداء للفساد، لكن ذلك لن يغير من حقيقة ان ما يشهده لبنان يشكل الحراك الشعبي أحد مكوناته، من ضمن مجموعة معقدة من المكونات التي تتمتع بالمرونة وقابلية التكيف وقدرة المناورة، والاحتواء والتوظيف للعناصر الأقل تنظيماً وذكاءً وتسييساً، ما يجعل الرهان على أحادية فعل الحراك في تحقيق تغيير سياسي اجتماعي اقتصادي، من دون أن يتولى أحد وضعه في سياق خطة مواجهة شاملة للتحديات التي لا يزال العامل الخارجي وامتداداته الداخلية العنصر الحاسم فيها، مجرد رهان طوباوي أو خدعة سياسية.

 

خلال شهر واحد جرى تدافع متسارع لعدد من صواعق التفجير المستندة إلى توظيف مبرمج للأزمة التي نتجت عن خطة تجفيف موارد تحويلات الاغتراب اللبناني، تحت شعار العقوبات على حزب الله، والتي تلاقت مع تراكم عناصر الأزمة الناتجة عن سياسات مالية قامت على دلال دولي مبرمج أيضاً للتشجيع على الفساد بهدف استرهان لبنان وماليته لمديونية عالية بفوائد عالية كانت دائماً متوفرة برعاية دولية، لتتوافر ساعة صفر لظروف تتيح تحويل الأزمة الاقتصادية إلى أزمة مالية فأزمة نقدية. وغاب الدولار ثم عاد ثم غاب ثم عاد، ومثله البنزين، وبشر شقيقهم الثالث الخبز بالغياب. وفجأة نزلت الضربة على الرأس، ضريبة على الواتساب تبين أنها لم تتحوّل إلى قرار حكومي، لكن وزيرين من فريق رئيس الحكومة صاحب المشروع توزّعا يبشران بالقرار، وموافقة بالإجماع عليه، كلن وافقوا يعني كلن ، وكان طبيعياً أن ينفجر الشارع.

ظهر شعار استقالة الحكومة كعنوان للحراك الشعبي، رغم أنه يضع المبادرة مرة أخرى بيد من وصفهم بالفاسدين، الذين سيتولون تشكيل الحكومة الجديدة، ويستهلكون حيوية الحراك ومعه مزيداً من الوقت الممكن استخدامه بصورة أفضل في إقرار تشريعات وتشكيل هيئات تشرف على تطبيقها، في مجالي مكافحة الفساد وقانون الانتخابات، وتقديم مكتسبات اقتصادية اجتماعية كتحريك قروض الإسكان وتوقيع مراسيم تعيين الفائزين في مجلس الخدمة المدنية ودورات الجمارك والأمن الداخلي، والسير بقوانين العفو ومنح الجنسية، وتثبيت المتعاقدين، وسواها من القضايا المطلبية المعلقة، ووفقاً لروزنامة يضعها الحراك، وخلال الوقت الذي كان يُفترض برئيس الحكومة التفرّغ لتطبيق بعض هذه البنود الواردة في الورقة الإصلاحية التي تمّ إقرارها تحت شعار الاستجابة للحراك بضغط من الذين يسعى لاستبعادهم من الحكومة اليوم، بادر رئيس الحكومة للاستقالة.

صار الرئيس المستقيل وهو أبرز رموز النظام المسؤولة عن السياسات المالية والاقتصادية مرشحاً مقبولاً من الحراك لرئاسة الحكومة بدواعي قيل إنها تتصل بالاعتبار الطائفي الذي جرى تبشيرنا أنه غير موجود في قاموس الحراك، أو لدوره في الحصول على قروض سيدر التي قيل لنا إنها أسوأ مراحل المديونيّة التي يقع تحتها الاقتصاد والخزينة معاً، وصار الحراك أداة ضغط لتسريع تسميته، ومنحه هوامش تتيح المناورة والتفاوض في تشكيل الحكومة، وسوف تثبت الأيام عند تسميته أن ردّات الفعل لن تكون اعتراضاً ولا احتجاجاً تحت شعار كلن يعني كلن ، وصار على المعنيين بالاستبعاد من التشكيلة الحكومية وبصورة خاصة التمثيل المباشر والعلني لحزب الله، والتمثيل القياديّ للتيار الوطني الحر بشخص رئيسه، أن يقرّرا وهما يملكان فائض قوة شعبياً وسياسياً ودستورياً وموضوعياً، أحد خيارين ليس بينها بالتأكيد تحمل مسؤولية الفراغ الحكومي، ولا مسؤولية المزيد من التدهور المالي، ولا المواجهة مع الحراك، بعدما شكلت حشود بعبدا رسالة هامة لتظهير الحجم الشعبي للتيار الوطني الحر، والاستعداد لمعادلة الدور أهم من الموقع .

خطوة إلى الأمام أو خطوتان إلى الوراء، هما الخياران المتاحان وهما يلاقيان الحراك، وفقاً لمفهوم عدم الوقوع برهان أحاديته في رسم مسار الخلاص، ويتيحان للفريقين المعنيين التحكم بالمسارات المقبلة من موقع حماية الثوابت الكبرى ودفع مسيرة جدّية وصادقة لسياسات مالية جديدة ومكافحة الفساد وإعادة تكوين السلطة، والخطوة إلى الأمام، هي الدعوة لحكومة تعيد الاعتبار لكون المؤسسة الدستوريّة الأم، وهي مجلس النواب هي التي تستولد منها الحكومات، عبر قانون انتخاب يقوم على الدائرة الواحدة والنسبية خارج القيد الطائفي، وفقاً لنص المادة 22 من الدستور، ونظام مجلسي النواب والشيوخ، وتتولّى الحكومة تنفيذ الورقة الإصلاحية التي أقرّتها الحكومة المستقيلة ووضعت على الرفّ بسبب الاستقالة، وتضع قوانين مكافحة الفساد وآلياتها موضع التنفيذ، وتنتهي مهمة الحكومة الجديدة بعد ستة شهور بانتخابات مبكرة نادت بها الساحات، ولكونها حكومة إشراف على الانتخابات فهي محكومة بأن تكون رئيساً وأعضاء من غير المرشحين لا مانع من التوافق على تسمية رئيسها وأعضائها من غير المرشحين مع الكتل الرئيسية في مجلس النواب، وخصوصاً مع الرئيس المستقيل.

الخطوتان إلى الوراء، ترتكزان على تسريع تسمية الرئيس الحريري كرئيس مكلف لتشكيل الحكومة الجديدة، والإعلان استباقاً عن عدم الرغبة بالمشاركة بالحكومة لا مباشرة ولا غير مباشرة، والاستناد للدور الشعبي والدور النيابي الرقابي، ولما سيكون على الحراك الشعبي القيام به في مراقبة السياسات المالية والإجراءات الحكومية، طالما أن الرئيس المسمّى سيتم برضا الحراك وتحت طلبه، وتشكيل الحكومة سيتم تحت نظره بمعزل عن طلبات الفريقين المعنيين بالاستهداف، ولأن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب سيكونان حاضرين في تشكيل الحكومة العتيدة. فهذا كافٍ لضمان عدم أخذها في القضايا الإقليمية نحو ضفة معادية للمقاومة، ولأن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قد أكد بالقول والفعل إن المقاومة قوية وقوية جداً، ولأن الثقة بذلك تسندها كل الظروف الأشد صعوبة التي مرّت على لبنان وخرجت منها المقاومة أقوى، سواء بالمقارنة بين اليوم وعام 2005 أو بين اليوم وعام 2015 خلال الحرب على سورية، سيكون الفريقان أقوى فريقين في المعادلة السياسية، والأقدر على تجنب الأعراض الجانبية للعلاج بالكي أو بالحجامة.

المصالحة مع الشارع بإجماليته واجبة على الفريقين، لأن جانباً من التصعيد الذي يطال الفريقين بنسب متفاوتة ليس مجرد صدى موجود لتعبئة ظالمة وافتراء مبرمج وبائن، بل إن النسبة الأكبر منه هي خيبة أمل من وعودهما بمكافحة الفساد، وإصلاح الوضعين المالي والاقتصادي، بسبب ارتضائهما التساكن مع القواعد التقليدية للعمل السياسي والحكومي، ظناً منهما بأولوية الاستقرار السياسي ومقتضياته على تلبية مطالب الناس وتحقيق تطلعاتها، وعسى أن هذه تكون العبرة الرئيسية التي تلقاها الفريقان من خبرتهما مع نبض شارع كل منهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى