مشكلة تواصل وثقة د.بثينة شعبان
يطرح الكثيرون من المعنيين والسياسيين والمحللين هذه الأيام أسئلة كثيرة عن أصل الحراك في لبنان والعراق وتشيلي وبوليفيا ومناطق أخرى أيضاً في المنطقة العربية وأميركا اللاتينية، ويتساءل الكثيرون عن مصادر التمويل والإنفاق التي تُبقي الناس في الساحات دون أن يقلقوا على خدمات أو طعام أو مواصلات. وتزداد الشبهة بعد أن فشلت المحاولات، إلى حدّ الآن، بإظهار القيادات التي تقود هذا الحراك رغم الدعوات إلى الحوار ومناقشة المطالب التي خرج المتظاهرون من أجلها أصلاً مما يثير الشكوك حول دوافع تخفّي هذه القيادات وعدم رغبتها في الظهور العلني إلى الساحة إلى حدّ الآن. ولكن مهما تكن الأجوبة المحتملة على كلّ هذه التساؤلات أو بعضها فإنها تغفل جزءاً هاماً جداً من المشكلة ألا وهو العوامل الحقيقية التي أدت إلى فقدان الثقة على هذا المستوى بين الحكومات والجماهير والتراكمات المريرة التي مكّنت الآخرين من النفاذ إلى مطالب وغضب المتظاهرين والإبقاء عليهم في الساحات وتحمّل تبعات هذا الحراك والذي قد يوقع الضحايا أو يقود البلاد إلى المجهول. حين يتساءل البعض عمّن خطط وأقنع وموّل ونظّم وتابع، فهم يتساءلون عمّا يفعله الآخرون بجماهيرهم دون أن يطرحوا السؤال الجوهري والمهم وهو: ما الذي أوصل هذه الحشود إلى درجة تقبل من خلالها المنطق الآخر بينما تفقد الثقة كلياً أو جزئياً بمن هم في الأساس مسؤولون عنها من نظام وأحزاب وقيادات الذين يفترض أنهم يرعون شؤونها ويعالجون كل العقبات التي تعترضها؟ وحتى ومع وجود الناس في الساحات في عواصم ومدن وبلدان مختلفة من المنطقة والعالم نلاحظ لجوء البعض إلى خطاب فوقيّ يفترض أنّ هذه الجماهير لا ترى ولا تفهم، ويحاول بدلاً من الإنصات والمكاشفة إلى توزيع اللوم هنا وهناك والاستمرار بالمكابرة ورفض التحلّي بالتواضع والافتراض أن الصواب قد يكون على الجانب الآخر وأن المراجعة الصادقة والشفافة أصبحت الخطوة الأولى الضرورية من ضرورات العلاج.
المشكلة الأولى التي لاحظتها من خلال عملي العام واحتكاكي بالمسؤولين هي أنّ بعض المسؤولين يعتبرون تعيينهم في وظيفة سامية “صك براءة” لهم من الانتماء إلى الجماهير العادية الكادحة بينما يجب أن يكون هذا التعيين الخطوة الأولى لمنهجة العلاقة مع الشعب والإنصات إلى هواجسه ونبضه وإحساسه الذي يجب أن يشكّل القاعدة الأساسية للسياسات المرسومة والمتّبعة، وخاصة إذا كان بعض هؤلاء المسؤولين لا يستحق الموقع الذي أوكل إليه فيبدأ مباشرة بالتعالي على الآخرين كي يثبت، ربما لنفسه أولاً، أنه خير منهم وأنه لو لم تكن لديه خصال استثنائية لما تمّ اختياره، بدلاً من البحث في تفاصيل ملفه وفهمه والاعتماد على ذوي الخبرات المتراكمة في هذا الملف واستشارتهم ومراقبة نتائج تنفيذ سياساته على الأرض وتكييف هذه السياسات مع حاجات ومتطلبات الذين تهدف إلى خدمتهم وتحسين أوضاعهم. وللأسف فإن البعض قد غرق في بحر أوهامه ولم يعد يستطيع أن يسمع إلا صوته أو أن يثق إلا برأيه أو أن يحترم إلا ذوي النفوذ وحفنة من الانتهازيين الذين يُسمعونه ما يعلمون حقاً أنه يرغب بسماعه من أجل استمرار سطوته واستمرار انتفاعهم من هذه السطوة كمقربين وموثوقين. وحين يستمر الأمر على هذه الشاكلة لفترات طويلة يحدث الشرخ الكبير بين الرعاة والرعية وتنعدم لغة التواصل والتفاهم ويبقى الطرفان مندهشين من مسار الأحداث وتسارعها دون أن يتمكن أحد من تغيير وجهتها واجتراح طريق مختلف بسبب كثرة التراكمات وتأخّر الوقت. ولكن في هذا التوقيت بالذات هناك من كان يعمل بهدوء ويتابع ويراقب ويزن مشاعر الناس وردود افعالهم وهواجسهم ومتطلباتهم بميزان دقيق صحيح ويرسم الخطى المناسبة التي يستجيب لها هؤلاء ظناً منهم أن هذه الخطى سوف تنقذهم وتحقق لهم كلّ ما يصبون إليه، بينما يتلطّى هو في الجانب الآخر وبيده مخطط مختلف تماماً عن كلّ أحلامهم وآمالهم، ينتظر اللحظة المناسبة لإقناعهم أن هذه الآمال والأحلام ممكنة التحقق إذا ما اتّبعوا المسار الذي رسمه لهم والذي يخلصّهم من كلّ معاناتهم ويوصلهم إلى الهدف الذي ينشدون. في مثل هذا التوقيت المتأخر لا ينفع توجيه أصابع الاتهام إلى صُنّاع المؤامرات ومستهدفي البلدان لأنهم يعملون ويخططون لتحقيق المصالح التي يرتؤون، وليسوا هم المسؤولين عن هذه الرعية ولم يدّعوا يوماً أنهم يشاطرون هذه الجماهير أحلامها في استعادة القدس أو تحرير فلسطين أو بناء بلدان ذات مستوى ديمقراطي وتنموي يخلق الاستقرار والازدهار لكل هؤلاء. ولا أحد يغفل أن المعركة مع هؤلاء محتدمة وذات أشكال مختلفة منذ عقود وهي في جوهرها معركة استقلال حقيقي ومعركة كرامة ومعركة قدرة الدول والشعوب أن تنفض عنها غبار الهيمنة الاستعمارية وأن تبني بلدانها بما يحقق مصالح أبنائها بعيداً عن طمع الطامعين وخطط المحتلين والمستعمرين. ولكنّ أدوات خوض هذه المعركة لم تكن يوماً أدوات واضحة يعاد تقييم نتائجها بين فترة وأخرى، ولم يتم وضع آليات العمل التي تزيد الشعوب حصانة واقناعاً أنها المعنية أولاً وأخيراً بكرامة بلدانها واستقلالها وأنها مستهدفة مع كل مطلع ومغيب شمس وأن هذ الاستهداف بحاجة إلى تفكير وتخطيط وعمل جاد ومثمر على مختلف المستويات وفي جميع القطاعات ومناحي الحياة كي يدرك الأطفال واليافعون حجم المخاطر التي تتهدد مستقبلهم وكي يقرروا بوعي وقناعة على أي ضفة يريدون الوقوف.
كي ندرك حجم وصعوبة وأهمية ما أشير إليه يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين الصين من جهة ودولنا العربية ودول أميركا اللاتينية من جهة أخرى خاصة وأن الصين قد نالت استقلالها من استعمار بغيض في وقت مقارب للوقت الذي نالت به دولنا العربية ودول أميركا اللاتينية استقلالها. في الوقت الذي أنفقت فيه الصين سنوات ومليارات لإنضاج خطط استراتيجية وإيضاح معالم الطريق المعتمد فعلاً على طموحات شعبها اتبعت معظم الدول العربية واللاتينية سياسة إطفاء الحرائق واستسلمت لمن أغرتهم السلطة والمال وخرجوا بخطاب يتّهم من يشير إلى الخطأ بالتواطؤ وعدم الانتماء، ونشروا ثقافة تمجيد ما يتمّ فعله بدلاً من تقييمه ومناقشته وتقليب منابعه وأهدافه إلى أن يتم وضع الخطة الأفضل. وحينما أصبح حجم الضرر كبيراً شعر الجميع بالعجز عن مواجهته واليأس من تغييره، وسادت أفكار التنصّل من المسؤولية والإلقاء بها على الآخرين وبدأ الانفصام بين مشاعر وآراء الرعاة من جهة والرعية من جهة أخرى. ورغم الدخول في أزمات متعددة على مرّ السنين لم يحاول الحكام تغيير أسلوب العمل أو إيلاء الاهتمام لما أهملوه من قبل باعتباره أحد مفاتيح التغيير الحقيقية. ما فعلته الصين هو تربية الأحيال في التعليم ما قبل المدرسيْ والتركيز على التنشئة الوطنية والسياسية والعلمية والمتابعة مع هؤلاء وفتح باب الحوار على مصراعيه واختيار النخب لوضع الخطط والاستراتيجيات وإنضاجها على مستويات واسعة قبل وضعها موضع التنفيذ، واعتمدت الصين في هذا على نظام تربوي وتعليمي مدروس ومتطور وعلى نخبة من مراكز الأبحاث وعلى مناقشة الخطط المكتوبة لسنوات قبل أن تظهر للعلن وتُوضع موضع التنفيذ. وما نحتاجه اليوم في عالمنا العربي من أقصاه إلى أدناه هو مراجعة شاملة لما مررنا به في العقود الماضية وامتلاك القدرة والجرأة لتحديد مواقع الخلل واجتراح الآليات الجديدة الكفيلة بتهيئة جيل واعٍ ومقتنع بما يدرسه وما يمارسه هو والآخرون، جيلٍ عصيّ على الاختراق والإقناع من قبل من يعاديه أو يستهدفه. لا شك أنها مهمة صعبة وسيقول الانتهازيون: “لا وقت لدينا لكل هذا الترف الفكري والاستراتيجي فنحن في أزمة ونحتاج إلى حلول سريعة”. سوف تتوالى الأزمات مالم نفكر بهدوء وعمق ونرسم الخطط بذكاء ووعي ونحمّل خطابنا المضمون وآليات التنفيذ التي تجعل من الهائمين في الساحات شركاء حقيقيين مقتنعين بأن الوطن وطنهم وأنهم مسؤولون عنه ومسؤولون عن إنقاذه وتوجيه دفة مستقبله. لقد كسرت الشعوب حاجز الخوف ووجدت من يمدّ لها يد العون لاستخدامها واستخدام آلامها، ولا ينفع اليوم الغموض أو المكابرة معها. الشيء الوحيد الذي ينفع هو الصدق والعمل الجاد والمستنير والهادف قولاً فعلاً لإنقاذ مستقبل الأوطان.