“محاولات إصلاحية”… أم تصفية الحسابات مع باسيل؟: هيام القصيفي
ليس الحشد الكبير وجمالية التظاهر في ساحة رياض الصلح هما المفاجأة الوحيدة التي شدّت اليها أنظار اللبنانيين، بل ما جرى خارج بيروت. طرابلس حضرت بكل ألقها وتلاوينها، وكذلك صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل وزحلة وبلدات في البقاع وجبل لبنان، كلها مفاجآت مبهجة في التظاهرات، لأنها قدمت صورة مختلفة عن مدن عانت وتعاني منذ سنوات طويلة من الحرمان والفقر والصورة المشوهة لتاريخها وشعبها، ووصفت طوال سنوات بنعوت وأوصاف بشعة. من كل هذه المدن الى عواصم دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا، حيث «انتشار» اللبنانيين الذين تظاهروا دعماً للتظاهرات في لبنان. الآمال المعلقة والخوف من الصدمات المتوقعة، في كفة، والمشهد السياسي في كفة أخرى.
فحصيلة أمس من الاتصالات تفتّقت مزيداً من الضغوط السياسية على القوى الامنية لممارسة اعلى درجات الضغط لتفريق التظاهرات. دار كلام في أوساط سياسية ــ حكومية أن التظاهرات يجب أن تنتهي بأي ثمن، مع ارتفاع الرهان على تعب المتظاهرين، بعد انتهاء الويك اند، وضرورة استيعابهم في صورة سريعة، إذ كلما تأخر الوقت، التفت العالم الغربي الى ما يحصل بغير العين التي ينظر بها حالياً. فالتغطيات الاعلامية الغربية لا تزال خجولة، وتتعاطى مع ما يجري كأنه اعتراضات مرحلية، من دون أن تعي أهميتها. أما إذا شل البلد أكثر، فستضطر عواصم القرار الى مواجهة التحديات اللبنانية بطريقة مختلفة. تعزز ذلك الاتصالات الديبلوماسية المكثفة التي جرت مع أركان السلطة والقوى المشاركة في الحكومة لمنع استقالتها. دخل سفراء دول عربية وفرنسا وبريطانيا وواشنطن لمنع الانهيار الحكومي، وضرورة تفادي الفراغ بأي ثمن. عاد الحديث عن الحفاظ على الاستقرار الى الواجهة من دون ترجمة عملية لكيفة مقاربة المتطلبات المالية والاقتصادية. لم يتحدث هؤلاء عن حلول معينة، بل عن ضرورة بقاء الحكومة ولمّ الشارع، علماً بأن الكلام الغربي والعربي شدد تحديداً على دعم الحكومة كسلطة تنفيذية أكثر من دعم العهد كخط سياسي. كان الكلام الديبلوماسي واضحاً، لا فراغ حكومياً ولا مسّ بالاستقرار، لأن كلفة إسقاط الحكومة مرتفعة، وهذه العواصم لديها انشغالات واهتمامات أخرى غير لبنان.
النقطة الثانية هي في كيفية استيعاب المتظاهرين، في بيروت وخارجها. وهنا برز توجهان متناقضان، واحد لا يزال يتعامل مع التظاهرات، خصوصاً من جانب العهد، على أنها استهداف شخصي وعائلي أكثر منها استهداف سياسي واجتماعي. يعزز ذلك كلام عن تهديدات مبطنة لكل مَن «انتقد وشتم: كل التسجيلات موجودة والبث المباشر بات محفوظاً، كما النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكل شيء وقته بعد أن ينتهي التظاهر. فما حصل كان تجاوزاً للخطوط الحمر» ومسّاً مباشراً بالعهد وأركانه ورموز الطبقة الحاكمة كافة، بطريقة تجاوزت كل التوقعات. وهذا ينذر بأسلوب قمعي مستقبلي بصمت.
استفادة الحريري كما بري وجنبلاط، تكمن في التخلص من ضغط باسيل
اما النظرة الثانية فهي تنحصر بضرورة الاستيعاب عن طريق الورقة الاصلاحية، التي بحسب أوساط وزارية تتقاطع بين أوراق الحريري والرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وطروحات حزب الله. ما تقدّم كان مؤشراً للبعض على وجود قطبة مخفية في استيلاد ورقة اقتصادية تمس في زاوية ما تدخل باسيل في كل شاردة وواردة في الرؤية الاقتصادية. الهدف الذي عبّر عنه الوزير وائل أبو فاعور صراحةً أمس، كان مدار بحث في النقاشات الخلفية، لا سيما أن استهداف باسيل بصورة كبيرة في ساحات التظاهر وعلى منصات التواصل شكّل فرصة لخصومه السياسيين لتحويل هذه النقمة العلانية، الى مناسبة لتصفية حسابات سياسية واقتصادية وخفض سقوف التيار الوطني الحر في الحكومة ومشاريعها. ويستفيد هنا بري وجنبلاط مع الحريري، لـ«قصقصة جوانح» باسيل، الذي شكل بالنسبة الى الاركان الثلاثة رأس حربة في تصعيد الضغط عليهم في مشاريع حيوية. استفادة الحريري كما بري وجنبلاط، تكمن في التخلص من ضغط باسيل وفي تحرر رئيس الحكومة من عبء شراكات التسوية، بحجة سحب غضب الناس.
واذا كان جنبلاط لا يزال يساوم في موضوع بقائه في الحكومة ويفرض بدوره شروطاً عالية في الاوراق الاقتصادية المطروحة، والشروط السياسية، مستفيداً من حملته الأخيرة على العهد والتيار الوطني الحر، فإن القوات اللبنانية، التي خرجت من الحكومة، تحاول الإفادة من التوقيت لتكثيف حملة الضغط على الحكومة وتجييش شارعها أيضاً. لم يكن الحريري موافقاً على الاستقالة، على قاعدة أنه لن يقبلها. لكنه تبلغ من القوات موقفاً قانونياً: الاستقالة لا تقبل أو ترفض، هي نهائية. لكن القوات التي دائماً ما تخطئ في توقيت قراراتها، ستستحوذ من الآن وصاعداً على نقمة التيار الوطني الحر. والتيار سيجد نفسه أيضاً من دون حليف داخلي داخل الحكومة، وهي النقطة التي يستفيد منها خصومه وشركاؤه، علماً بأن الخلاف بدا على من يرث مقاعد القوات، الحريري أم باسيل؟ وسط كل ذلك، يبقى الرصد الحقيقي هو لكيفية تصرف حزب الله في ضوء بقاء الناس في الشارع وبقاء الحكومة، لا سيما أن السفارات هي التي تحاول شدّ عصب الحكومة بأي ثمن. حتى الآن، خذل المتظاهرون كل من راهن على فرطهم وسحبهم من الشارع. واستمرار تحركهم سيكون رداً داخلياً وخارجياً، لأن أي انتكاسة تطال آمالهم، تعني عودة موسم هجرة الذين أنشدوا امس النشيد الوطني معاً، الى بداياته.
(الاخبار)