مقالات مختارة

السقوط التدريجي الكبير للطائفية السياسية على الأبواب: د.وفيق إبراهيم

النظام السياسي اللبناني في محنة تاريخية متصاعدة تقذفه ببطء نهو الانهيار لأسباب عدة، تبدأ بعجزه عن تجديد حركته السياسية ـ الاقتصادية داخلياً وغياب الإقليم والمجتمع الدولي عن مناصرته بالدعم المالي والسياسي كما كان يحدث في سالف الأيام.

 

اصبحت ازمات الاقليم اكبر من أهمية لبنان في موازنات القوى الدولية، ويصادف ان الداعمين الاساسيين للبنان من الأميركيين في السياسة والسعوديين بالمساعدات والابتهالات الدينية، هما في حالة تراجع مريعة، تفرض عليها الاهتمام بمعالجة تقهقرهما قبل الحلفاء، العاجزين الذي لا يمتلكون مخيّلات سياسية.

أما السبب الثالث فهو بنيوي قاتل، ويتعلّق بمرحلة سياسية لبنانية بدأت في تسعينيات القرن الماضي على قاعدة الإنماء بالدين على قطاعات غير منتجة وفي بلد لا إنتاج فيه.

تقاطعت هذه النظرية مع عملية تحويل الدولة اللبنانية الى امارة على النمط السعودي يحكمها اربعة سياسيين او اكثر من قيادات الطوائف، أحكموا قبضتهم على المال العام فسطوا على معظمه مبددين الباقي لتعميق سيطرتهم على مذاهبهم.

كانوا يعتقدون أن السلام مع العدو الإسرائيلي قيد أنملة، يرتع لبنان بعدها بالمغانم والاسلاب وتزويد النظام الطائفي باوكسيجين اقليمي منعش ومجدد لشباب نظام مستهلك يكاد يختنق.

ماذا كانت نتيجة هذه السياسة؟

سياسياً، أمسك النظام الطائفي بالنقابات، محجماً الأحزاب الوطنية، ومسيطراً على وسائل الاعلام بكل أنواعها معززاً كل انواع التفاعلات على اساس طائفي ومذهبي صرف، وممسكاً باجهزة الدين التي نجح بتحويلها من مراكز لعبادة الله، الى مقار لتنمية الشعور الطائفي وعبادة الزعيم. هنا لا بد من استحضار ما أعلنه رجل دين كبير من أن أحد الزعماء السياسيين المتهم باختلاس عشرات ملايين الدولارات انه «خط أحمر لمذهبه» ممنوع المسّ به أو مساءلته.

الجهة السياسية الخارجية فقد نجحت هذه الطبقة السياسية في الارتماء على أبواب الخارج السياسي واستلهامه في المواقف السياسية مهما كانت متواضعة او كبيرة، حتى ان حكام لبنان الفعليين حتى الآن هم ثلاثة سفراء لا تقطع دولة ما بعد الطائف خيطاً من دون الاستئناس بمشوراتهم، وهم السعودي والإماراتي وكبيرهم الأميركي، وسط منافسة من السفير الروسي الذي يحاول التموضع بصعوبة ويقف وراءه السفير الفرنسي الذي يحمل تحت أبطه ملفاً تاريخياً عن علاقة «الأمة المارونية» بفرنسا كما كان يقول «نابليون الثالث».

هذا جانب بسيط من السياسة في بلاد الارز العظيمة، أما الاقتصادي فيها فيذهب الى حدود الكارثة الموصوفة، وله علاقة تبعية بالجانب السياسي.

فبواسطة تعميق التباينات الطائفية والمذهبية في البلاد بالتماهي مع الصراعات الإقليمية بين الغرب والسعودية من جهة وإيران وسورية من جهة ثانية، تمكن سياسيو لبنان من إلغاء كل انواع الصراعات الاجتماعية، ونجحوا بتصعيد التباينات الطائفية الى حدود ما قبل الاحتراب مباشرة، ناشرين فكرة الخوف، والحذر من الآخر المذهبي والطائفي لكنهم لم يسمحوا بإدراك مرحلة الانفجار الذي كانوا يوقفونه في الثواني الأخيرة، تاركين في نفوس الناس خوفاً على أئمتهم وأنبيائهم وقديسيهم انما من صدامات شعبية داخلية.

هذا الخوف الشعبي أباح لكامل افرقاء الطبقة السياسية الطائفية بفئاتها، خصوصاً تلك المنتصرة في السلطة، السطو الكامل على المال العام بالتحاصص والنهب والسلب بدعم من الطائفية ورجال الدين والإقليم، ما أنتج ديناً متراكماً بأكثر من مئة مليار دولار تواصل نموها عمودياً وسط توقف كامل موارد الدولة من هبات خليجية واوروبية الى انهيار قطاع الخدمات الذي كان يعيل ثلث اللبنانيين مباشرة ونصفهم الآخر بطريقة غير مباشرة بسبب اندلاع الاضطرابات في سورية والعراق مع توتر الاوضاع في الداخل اللبناني. فتوقفت السياحة ومعها مواسم الاصطياف بمواكبة أكبر عملية فساد سياسي شمل كامل قوى السلطة بالمباشر او بالتغطية، مبدّدين الديون العامة على أسرهم وعائلاتهم والموالين لهم ومعززين التباينات الطائفية على حساب الكماش في البعدين الطبقي والوطني للعلاقات الاجتماعية.

لكن تفاقم الجوع وكل الأمراض الاقتصادية من بطالة وتضخم وفساد سياسي وإداري واتجاه المؤسسات الخاصة إلى الإقفال، وامتناع الدول الخارجية عن إقراض لبنان، هي عوامل كشفت فساد هذه الطبقة، ووضعت البلاد أمام مشروع انهيار فعلي.

ما هي أهمية هذه العوامل؟

أسهمت أولاً في نمو شعور طبقي على حساب تراجع نسبي للانتماءات الطائفية والمذهبية، وهذا قابل للتطوّر على أساس تشكل تيارات طبقية وطنية تعتبر ان الدفاع عن حرية لبنان أما التسلط الأميركي السعودي والإقليمي عموماً، يمنع الحماية الخارجية للنظام الطائفي السياسي معيقاً دور القناصل المسيطرين على الداخل اللبناني.

لذلك يقف لبنان اليوم أمام مفترقات شديدة الخطورة، فحتى لو توقف السياسيون عن السرقة، فمن أين تأتي الأموال لدعم الموازنة والحد من الجمود التراجعي الذي يسيطر على الحركة الاقتصادية ولا قدرة للبلاد على سداد حتى أجزاء بسيطة من ديونها، وكيف تتشكل مؤسسات جديدة تستوعب قسماً من العاطلين عن العمل، ولا أعمال في لبنان ولا أموال.

أما إذا استقالت الحكومة، فان وليدة شبيهة بها قابلة لتسلم الحكم تحت شعار استبدال حنا بشقيقه حنين وعمر بفاروق وعلي بعباس وهكذا دواليك.

ما يؤكد ان المشكلة بنيوية وقد لا نتفجر في وقت قريب، لكنها على وشك التحضير لثورة جياع وطنية تدفع بالبلاد الى القرن الوحادي والعشرين بعد استعادة اموال الدولة المسروقة من قبل طبقة سياسية نفدت صلاحياتها وعبقت رائحة فسادها في أرجاء لبنان ومعها ادواتها في الداخل، وقناصل لا بد أن يعرفوا أخيراً ان بإمكان اللبنانيين انتاج وطن مستقل يتعامل مع المحيط الإقليمي باقتدار وتمكّن وبالاقتناع أن المنفذ الوحيد للبنان سياسياً واقتصادياً هو سورية وبمفردها.

(البناء)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى