دائماً نحن متفاجئون… والحق عالطليان!: ناصر قنديل
– قد يكون وراء الحرائق المتنقلة التي اجتاحت لبنان وسورية يد افتعلتها، لكنها ستكون حكماً ذات طابع أكبر من لعبة الطوائف وتقسيماتها التي أغوت أحد النواب لشعبوية سطحية مؤذية في التعامل مع قضية بهذه الخطورة بهذا الاستسهال. فبدلاً من المساعدة بإطفاء حريق أشعل حرائق، ولا يمكن إذا تعلم بعض اللبنانيين التطلع شرقاً وشمالاً حصرها بلبنان. فالحرائق هي نفسها بتشكيلات اللهب وألوانه ونمط الانتقال، والمساحات التي شملتها، من ريف اللاذقية وريف طرطوس وريف حماة وريف حمص والغابات الجميلة التي تشوّه وجهها بالحرائق، إلى جبال لبنان الجميلة التي تفحم بعضها، وفقد الكثير منها رونقه بندوب لن تشفى سريعاً. وإن كانت الحرائق فعل يد بشرية فهي حكماً إسرائيلية، ربما تكون طائرات مسيّرة رمت للتسبّب بها أجساماً مشبوهة على هذا النطاق الواسع مستفيدة من الرياح التي صاحبت اليومين الماضيين. وهذا أمر متروك للتحقيق الذي تجريه قيادة الجيش، لكن علينا أن نعترف بأن القضية ليست هنا فقط.
– القضية هي أننا دائماً متفاجئون مع كل كارثة طبيعية، ودائماً نملك تفسيراً غريباً عجيباً للعجز والفشل، ودائماً ليس الحق على أحد في دولتنا التي أجمع مسؤولوها أن مكافحة الحرائق مسؤولية الدفاع المدني، الذي أجمعوا مراراً على الإجحاف بحقه وتجفيف موارده ولم يرفّ لهم جفن، وغداً تمطر وتكون الأمطار غزيرة، ولم يقم أحد بتنظيف مجاري المياه، وننتقل من الحريق إلى الغريق، ونعيد اسطوانتنا المجروحة ذاتها، نتفاجأ و الحق على الطليان ، ولأننا لا نتطلع شمالاً وشرقاً إلا بعين عنصرية، لا نستطيع رؤية كيف أن دولة لا زالت في حال حرب مستمرة من عشر سنوات، أنهكت مواردها واستنزفت البشر والحجر، وتتعرّض لعقوبات وحصار أين منهما ما نحن نسمّيه عقوبات وحصار علينا، وتنجح بإطفاء الحرائق والسيطرة عليها، وتستعدّ لمواسم الأمطار. وبالأمس كنت ذاهباً إلى دمشق، فإذ بورش الصيانة للطرقات العامة تعيد تأهيل الإسفلت، كما هي عادتها التي لم تتوقف منذ نصف قرن، رغم تبدل الأحوال وتغير الظروف.
– في شأنين آخرين يؤرقان أجفان اللبنانيين نلحظ الفرق أوضح، الكهرباء والنفايات. ففي سورية التي دمّرت معامل عديدة لإنتاج الكهرباء فيها، والكثير الكثير من محطات التحويل، وأنابيب نقل الغاز، ونهبت مواردها النفطية، لم تدم أزمة الكهرباء التي تمثلت بالتقنين لساعات يومياً، لكثر من سنين، والكهرباء 24/24، ليست شعاراً أو هدفاً لا ينال، بل هي اليوم رغم ضيق ذات اليد بالعملات الصعبة، حقيقة لا يمكن الطعن بصدقيّتها. والنفايات لم تطرح على جدول أعمال السوريين كواحد من الهموم، رغم أشرس الحروب التي عصفت بكل الجغرافيا السورية، ودمشق لا تزال من أنظف عواصم العالم، إن لم تكن أنظفها، وفي ذروة أيام الحرب والقذائف تتساقط على الطريق الدولي بين الحدود اللبنانية ودمشق، كنت عندما أقصد الشام في الصباح الباكر أسبوعياً، كما كان الحال في أيام الحرب القاسية ألحظ عمال النظافة، يذهبون إلى أعمالهم وكأن لا شيء يهدّد الحياة ويعرّضها للخطر، لا بل كنت أشهد عمال الحدائق يزرعون الورود ويسقونها في ذروة تلك الأيام الصعبة. وهذا من دون أن تتوقف خدمات الدولة بدعم الخبز وتأمين الرواتب لمليوني موظف، وتأمين التعليم المجاني بما في ذلك الجامعي، لأكثر من عشرة ملايين طالب، والطبابة المجانية لخمسة وعشرين مليون مواطن بما فيها العمليّات الجراحية، وبقي الدواء بكل أنواعه متاحاً وبأسعاره الزهيدة.
– القضيّة هي أنه عندما تكون للمواطنين دولة يختلف الأمر عنه بغيابها. وهذه هي المشكلة، أنه ليست لدينا دولة بل علينا سلطة. فالكوارث والحروب والأزمات، تقع على بلاد العالم، ولكن الفارق في إدارتها في بلاد فيها دولة وبلاد بلا دولة. والفرق بين دولة وسلطة هو كالفرق بين القضاء والقدر، وكما هو حال الفرق بين مواجهة القضاء والقدر بدولة أو مواجهته بسلطة. وهذا ما يذكرنا بالحكاية المنقولة عن الإمام علي عندما كان يتفيأ جداراً أحسّ به يتداعى فغادر جواره، وسأله أحدهم، أليس هذا فراراً من قضاء الله وقدره، ليجيب إنه فرار من قضاء الله إلى قدره، فالقضاء هو ما ليس للمرء يد في وقوعه كحال وقوع هذا الجدار، والقدرهو ما قدّر الله لنا من عقل وحسن تدبّر، ولعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يكلف عسيراً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب على العباد عبثاً.
ما نحتاجه دولة تُخرجنا من القضاء إلى القدر، لا سلطة تتذرّع بالقضاء والقدر.