مقالات مختارة

نظام يترنح ودولة تتحلل: د. عدنان منصور

عندما نسمع وزيراً أو مسؤولاً يتمرّد على الدولة والقضاء ويرفض المثول أمام القاضي أياً كانت الحجج الواهية والذرائع العقيمة، فهذا قمّة الفساد المهني والانحطاط الأخلاقي. ولو كنا في دولة تحترم نفسها لما كان المسؤول فيها يتصرّف بكل وقاحة واستخفاف بالدستور والقانون والإدارة وبالقضاء وهيبة سمعته. ولو كان المارق المرتدّ المتمرّد على القانون والقضاء غير محميّ من قبل المفسدين والفاسدين لما تردد لحظة من تلبية استدعاء القضاء له لانه يعرف مسبقاً أننا نعيش في دولة الخطوط الحمر، والخارجين عن القانون ودولة وعاظ السلاطين، حماة اللصوص وناهبي أموال الشعب. فإذا أراد القضاء ان يستجوب احداً تحوم حوله شبهات سرقة او اختلاس للمال العام، انبرى منافق من هنا وهناك ليقول هذا خط أحمر، وإذا ما طلب التحقيق مع آخر متلبس بسرقة الأموال العامة، رُفعت في وجه العدالة الخطوط الحمر. وما أكثر الخطوط الحمر في هذه الأيام، خطوط حمر طائفية وخطوط حمر سياسية، وخطوط حمر مناطقية وخطوط حمر مالية وخطوط حمر تحصّن وتحمي الفاسدين الذين سرقوا ونهبوا واختلسوا وقامروا بالوطن وشعبه ليقفوا بعد ذلك وبكل وقاحة وصلف وغرور ليتحدّوا العدالة ويسخروا من القضاء ويتهكموا عليه.

 

إن المسؤول الشريف البعيد عن الشبهات نظيف الكف غير المنغمس في الصفقات لا يهاب مساءلة القضاء له والتحقيق معه، وحدهم الملوّثة أيديهم بالمال الحرام والعمولات والسمسرات والصفقات يخشون المساءلة ويخشون الوقوف أمام القضاء وعدالته.

لقد هالنا ما شاهدناه منذ أيام قليلة على شاشات التلفزة وزيراً مسؤولاً يتمرّد وبكل عنجهية وغرور على الدولة والقضاء ليقول: «لن أذهب إلى مكتب المدّعي العام المالي، لا لشرب قهوة ولا الشاي، واذا هو يرغب بذلك فنحن مستعدّون لاستضافته»…

لم تشهد دولة في العالم على شاكلة هذا الوزير ليتجرّأ ليقول ما قاله، ويصرّح بتصريح كهذا ولو فعل لأُطيح به، ووضع في المكان الذي يستحقه بعد أن يُطبّق عليه القانون وحكم الشعب، لكن من حسن حظ الوزير «السامي الاحترام» أنه وُجد في بلد يرخص فيه القانون، ويُظّرف فيه الفاجر ويُحجّم فيه الشريف ويسرح فيه ويمرح الأرذال والفاسدون.

إنها كرامة القضاء وكرامة كل القضاء وكرامة القانون وهيبة القاضي في الميزان، فلا يجوز السكوت ولا التغاضي مهما علا صوت الفاسدين واللصوص في هذا البلد المنكوب بهم، والدولة التي تحترم نفسها تعرف كيف تضع حداً لأي مسؤول مارق عابث بالقانون، وغير عابئ به لأن رفضه الاستجابة للحضور عند القاضي هو إهانة مباشرة للدستور وللسلك القضائي برمّته، ولكل قاضٍ في السلطة القضائية التي لا تقبل بأي سلطة فوق سلطة القانون والقضاء مهما علا شأن المواطن أو المسؤول. وكيف الحال إذا كان التطاول والإهانة تأتي من مسؤول مارق تجاوز كل الأعراف واللياقات والأصول والحدود.

هل تتعاطى دولتنا العلية مع الخارجين عن الدستور كما تتعاطى دول غيرنا في هذا المجال، ألم ترَ دولتنا كيف تتصدّى الدول للفاسدين الذين حققوا ثروات على حساب الشعب أو الذين ارتبطوا بصفقات المال العام، او الذين أساؤوا استعمال السلطة لغايات وأهداف شخصية؟ هل سمعت الدولة وتابعت كيف سجن رئيس دولة العدو الإسرائيلي كساف ورئيس وزرائه يهودا باراك وكيف يلاحق رئيس الحكومة الحالية نتنياهو؟ هل توقفت الدولة ومعها الطبقة السياسية التي لا تنفك عن التشدق بروح الدستور والقانون والعدالة، كيف أُوقف الرئيس البرازيلي دا سيلفا رمز نهضة البرازيل الاقتصادية بتهمة الفساد وأودع السجن؟ وهل أخذت دولتنا العبرة من باعث النهضة الماليزية مهاتير محمد الذي أوقف رئيس وزراء ماليزيا السابق نجيب عبد الرزاق لدوره المفترض في فضيحة مالية باختلاس مليارات الدولارات؟

وما أكثر المختلسين وما أكثر الفضائح المالية في بلدنا الذي ينتظر رجلاً كمهاتير محمد يضع الأمور في نصابها فيُساق من يُساق الى القاضي الذي لن يعود بحاجة الى قهوتهم ولا شايهم في ما بعد.

فكيف يمكن بعد اليوم ملاحقة مهرب او تاجر او ممنوعات او مرتكب جنحة او جناية او جريمة بموجب القانون والدستور، عندما يجد المواطن ان وزيراً في حكومة بلده يهين القضاء والقاضي ويتمرّد على الدستور والقانون ولا يحاسب؟ ألا يحق للمواطن بعد ذلك ان يطالب بالعدالة الحقيقية وبمساواة الجميع امام القانون؟ وهل يطبق القانون على ابن الجارية ويُتغاضى عن ابن الست؟

إن ما جرى من رفض الوزير للاستدعاء ثم التعليق عليه من جانبه يبين بوضوح مدى هشاشة صدقيّة الدولة في تعاطيها مع المسألة في كل مرة تبدي فيها حرصها على احترام الدستور والقانون والقضاء والعدالة. ما جرى يُظهر جلياً مدى تحلّل هذه الدولة وضمور هيبتها التي مرّغها وزيرُها بالوحل.

فما الذي يبقى من دولة يترنّح فيها النظام وتُضرَب فيها هيبة القضاء وكرامته، ووزراء فيها يتمادون في غيهم وسياساتهم التي تطرح أكثر من علامة استفهام وتثير الشكوك حول أدائها ونزاهتها وصدقيتها وشفافيتها بعيداً عن المزايدات والغطاء الطائفي البغيض الذي يختبئ خلفه سماسرة الوطن وتجار الشعب وسارقي أمواله ومستقبله.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى