كذبة الثورة… وكذبة الاستهداف… وقدر اللبنانيين!: ناصر قنديل
– المعادلة التي يريد البعض تحويلها إلى ابتزاز إعلامي وسياسي، هي أنه إذا كنتَ مقتنعاً بالفساد السياسي والمالي كسبب للأزمات المتفاقمة حد الانفجار، فعليك الدعوة للمشاركة في ثورة شعبية تترجمها بالنزول إلى الشارع والصراخ مع الصارخين، تحت شعار كفى، أو طلعت ريحتكن، أو كلكن يعني كلكن، وإلا فأنت تدعم الفساد وتتستّر على مسببيه، وتحبط الهمم الشعبية المطالبة بالثورة عليه. والحقيقة البسيطة التي يعرفها اللبنانيون هي أنهم منحوا تفويضهم النيابي للقوى الحاكمة طوال ثلاثة عقود. ومن ضمن هذا التفويض المفتوح بلا مراقبة ومحاسبة، أنفقت أموال وتراكمت ديون، ونفذت عمليات ربط محكم لارتهان لبنان مالياً واقتصادياً بالخارج. لن يعفي اللبناني من أي منها صراخه اليوم في الشارع، ولا تحدّثه عن ثورة، والأكيد أن الحلول بمعناها الحقيقي لن تأتي من الشارع ولا من الصراخ ولا من ادعاءات الطهارة واستعمال لغة الثورة.
– الأكيد أيضاً أن لا أحد يستهدف أحداً لإسقاطه، ولو دفع التبرؤ من المسؤوليات بعض الحاكمين لتوجيه سهام الاتهام عنه باتجاه شركائه الأقل قرباً منه، لكن لا توازنات ولا مشاريع قابلة للحياة تتيح لاستهداف العهد وإسقاطه، ولا مشاريع تتيح استهداف رئيس الحكومة وإسقاطه، ولا خطط لدى أيّ من شركائهما في الحكم إضعاف حجم ونوع هذه المشاركة، لأن البعد الاقتصادي مسقوف بحتمية تشارك الجميع لتخفيف الخسائر، والكل يدرك أنها ليست مرحلة تحقيق أرباح، والكل يعلم ماهية الأزمة الراهنة بتفاصيلها، كتتويج لمسار خاطئ وهشّ شارك الجميع في اعتماده، سواء كان في الحكم منذ عقود أو دخل إليه منذ سنوات، وقد صار أصغر عمر الشراكات في الحكم خمسة عشر عاماً للذين لم يكونوا شركاء من قبل، وقد جاء حجم مشاركتهم كبيراً بصورة كافية، ليقال لهم، إنكم جميعاً مسؤولون، لأنه طوال السنوات التي مضت لم يضع أحد منكم على جدول أعماله أولوية النهوض الاقتصادي، بل كانت ولا تزال المعارك تدور بينكم تحت عناوين المحاصصة، التي تتخذ شعار حقوق الطوائف أحياناً، كما يدور التشارك بينكم على رفع سقوف الإنفاق وهوامش التوظيف، وزيادة التلزيمات، وكلّها زيادة في الديون بينما الاقتصاد يتراجع ويضمر، والكل ينتظر حدوث معجزة تمنع لحظة السقوط، وقد ولّى زمن المعجزات. ومعيار السياسة تقديم الحلول للمشاكل قبل انفجارها، وعلى قاعدة رفض بيع الأمل بحدوث معجزات، بدلاً من مشاركة الجميع للجميع في عملية لحس مبرد السقوط، بانتظار معجزة.
– الشعب والحاكمون شركاء في الاستهتار، وفي التفويض المفتوح التشاركي بمواصلة الإنفاق الفوضويّ والعشوائيّ والاستدانة بلا سقوف، والتسابق على المشاريع والتوظيف، والتغاضي عن الهدر والفساد، والأهم عن تراكم الدين دون سؤال عن اللحظة الآتية، وكم هو سهل أن تسمع الذين يتحدثون عن خطورة حجم الدين في خطاب، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها طلباً لاعتماد أو قرض في خطاب آخر، والذين يتحدثون عن خطورة الفوضى الإدارية والمحاصصة، يخوضون معارك نيل الحصص عندما تصير التعيينات على الطاولة، أو المناقصات والتلزيمات تحتها؟ والمواطنون مثل القادة، يتحدثون عن الفساد ومسؤولية الجميع عنه بلا استثناء، ويوم الانتخابات يعيدون تصويتهم للقادة ذاتهم، ويتبارون كقادتهم بجعل المسؤولية على الآخر، الآخر الطائفي والآخر السياسي.
– أزمة المحروقات وأزمة الدولار، ترجمة لنقص العملات الصعبة في خزائن الدولة، وخشية مصرفها المركزي من نفاد ما لديه منها، إن قام بالتساهل في ضخّها في شبابيك المصارف والصرافين، وللنفاد معادلات منطقية مع استيراد يعادل خمسة أضعاف التصدير وتراجع السياحة ووارداتها، وتراجع تحويلات الاغتراب، وتراجع المال الآتي من الخارج للدولة. والمطلوب من العملة الصعبة يفوق المعروض منها، وكل تفذلك سياسي آخر هلوسة تغلفها كذبة، والصراخ والكذب وحديث الثورة لن يغير توازن العرض والطلب على العملات الصعبة في السوق. والمال الوحيد المتاح هو المزيد من الديون، التي تحل مؤقتاً توافر العملات الصعبة، ولهذا يهتف الزعماء بحياة سيدر، لكنها مواصلة للحس المبرد. فالديون الجديدة ستشدّ حبل مشنقة السقوط على رقابنا بعد حين، ولا أمل كبير بأن يغيّر إدراك الحكام والشعب لذلك، تغيير سلوكهم، سواء في مغادرة فوضى الإنفاق، وصراعات المحاصصة، أو الإقلاع عن الاستهتار بما هو آت أملاً بحدوث معجزة، أو اللجوء إلى المحاسبة والمساءلة بصورة جدية، سواء داخل معادلات الحكم، أو في معادلات الناس مع الحكام.
– الذين يتحدثون عن ثورة، كالذين يتحدثون عن استهداف، يهربون من الحقيقة، وهي أن قدر اللبنانيين أن يتعاملوا مع قضاياهم بجدية، وقد آن لهم أن يغادروا العبث والاستهتار، والجدية لا تعبير لها إلا البدء بالتصرّف كدولة، في السياسة والإدارة والاقتصاد، بناء الدولة يعني الخروج من نظام المحاصصة الطائفي لعقل الدولة ونظام المواطنة والقانون، وبناء الدولة يعني التخطيط لنهوض الاقتصاد والتوقف عن الاستدانة، وبناء الدولة يعني وضع أولوية مصلحة لبنان واقتصاده في خيارات الدولة، من ملف النزوح إلى ملفات الفرص الاقتصادية المتاحة والضائعة في اقتصادات الجوار السوري والعراقي، وأن يغادر الشعب والقادة نظرتهم نحو المال العام كثمرة متاحة يكفي الصراخ داخل الحكم، أو في الشارع للحصول على نصيب منه، فقد استهلكنا كل هوامش هذه المرحلة، ولم يعُد صراخ الحاكمين بوجه بعض يجدي، ولا صراخ الشعب بوجههم، وإن فعل فسيذهب بما يأتي به سيدر، ونواجه الانهيار بدين مئة مليار دولار، وإفلاس في الخزائن، وبعض الكلام عن ثورة، وكلام موازٍ عن فساد، وشتائم البعض للبعض بتقاذف كرة نار الاتهامات، ما لم يحدث الأسوأ الذي تبشر به بعض المظاهر المرافقة للأزمة، مخاطر فوضى أمنيّة، وخطاب طائفي يشعل التوترات، وقبول لعبة صندوق البريد لرسائل مسمومة ستساوم لبنان واللبنانيين لقاء المال على مصادر تتصل بمستقبل وطنهم وسيادتهم وكل ما يتّصل بكرامتهم، ملفات بحجم التوطين ومستقبل المقاومة؟!