بقلم ناصر قنديل

مصر لن تفتح ذراعَيْها للفوضى والأخوان: ناصر قنديل

 

شكلت زيارتي للقاهرة عشية السنة الخمسين لرحيل الراحل العظيم جمال عبد الناصر، حدثاً وجدانياً وسياسياً، والأهمّ فرصة لسماع وتتبع نمط تعامل شرائح ونخب مصرية عديدة مع ما يجري في مصر، وما يعتقد المصريون بألسنة قادة الرأي بينهم حول ما يتوقّعونه من مكانة حاسمة لمصر في توازنات ومعادلات إقليميّة، يرونه سبباً في لحظات الاهتزاز الكبيرة التي تعيشها المنطقة أن يكون الطلب خلاله على أدوار من مصر، مشفوعاً بالرسائل المشفرة، التي يمكن أن يأتي بعضها أمنياً، كما يقرأون في تصاعد بعض العمليات التي تستهدف الأمن المصري وما قابله من ترتيب جهوزية استثنائية للجيش والأجهزة، وهو ما قالته العمليات الأخيرة في سيناء، ويمكن أن يأتي بصيغة توظيف مدروس لمناخات التعب الاقتصادي والاجتماعي لشرائح شعبية أو مناخات القلق والتذمر والتطلعات لشرائح شبابية، وقد علمهم الربيع العربي، وما حدث مع ثورتهم الأولى، ألا يروا في كل ما يلمع ذهباً، وأن يقتصدوا في استخدام مصطلحات من نوع ثورة وانتفاضة واحتجاجات عفوية، حتى لو كانت لهم مآخذ كثيرة على أداء الحكومة ومؤسساتها، أو على بعض ما يظنونه بروداً في التعامل مع المتغيرات وتبديلَ بعض الخيارات أو تطوير بعضها، يعتقدون أن بلدهم معني فيه، وأن زمن انتظارها قد طال.

 

التوق لدور قيادي لمصر في الأزمات الدائرة في المنطقة يبقى نخبوياً بالتأكيد، رغم مشاعر شعبيّة عارمة تفجّرت في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر استعادت في بريق العيون ولهفات العناق وبحة الحناجر، تلك الأيام التي كانت القاهرة مركز صناعة السياسة الأول في المنطقة، وأحد المراكز العالمية المعدودة التي يحسبُ حسابها الكبار في قراراتهم. والتوق يبقى أقوى لدى الناصريين الذي يشكلون بيئة ثقافية حيّة وجمهوراً مشبعاً بالقيم والأخلاق، وكل منهم لا يخفي حجم تعلقه بالمقاومة، ووفائه لفلسطين، وعشقه لسورية، ويحكي بلا حساب أحلامه عن التطلع ليوم تكون فيه مصر كما يحب أن يراها درة تاج في هذا المثلث، لكنهم يستدركون بالقول، طبعاً لا ضغط على مصر بوسائل خبيثة ومؤذية أو رهانات مقامرة او انتهازية مشبوهة، طلبا لتحقق مثل هذا الحلم، بل هو أمل بتطوّر موقف الدولة ومؤسساتها، نحو سقوف تعبر فيها بوضوح أكبر عن اصطفافات تستثمر على تطورات المنطقة، وتغيرات موازينها ليكون لمصر بعض مما يحلمون به، ولو بالتدريج وبتواضع التمني، خصوصاً أن ما خبروه من خوف وقلق على مصر ووحدتها وأمنها واستقرارها، ومكانتها وتحالفاتها، ونبض مواقفها، خلال فترة تولي الأخوان المسلمين مقاليد الأمور في بلدهم، جعلهم يضبطون إيقاع مواقفهم، وحتى مشاعرهم، أو غضبهم أحياناً، على التمسك بمعادلة ذهبية أظهرتها عاصفة الخماسين التي سُمّيت ربيعاً وأصابت بلدان المنطقة، وهي أن الأوطان والجيوش توأمان، وبعدهما تأتي السياسة، بعيداً عن التطيُّر اليساري الذي شغل بال كثير من النخب والأحزاب خلال عقود مضت تحت شعار لا للعسكرة.

الطلب على دور لمصر يأتي من الذين يخسرون معاركهم في الإقليم، وخصوصاً الذين يربكهم عدم انخراطها في أدوار عرضت عليها ورفضتها المؤسسة العسكرية والأمنية والدبلوماسية بقوة، سواء في مراحل الحرب السورية التي سبقت ثورة 30 يونيو، وتسلم الجيش مقاليد الحكم وإطاحته بقوة الشارع ودعمه لحكم الأخوان، أو في مواقع مشابهة، تملصت منها مصر وجيشها بذكاء، ولكن وبصورة أشد خصوصاً، تبدو العيون مفتوحة على التراجع التركي الإقليمي، وحاجة أنقرة التي خسرت رهاناتها في سورية وتخسرها في ليبيا، لمنع مصر من التقدم نحو المنصة السياسية للترتيبات والتسويات، كجهة تلقى القبول والترحيب من أغلب اللاعبين المحليين والإقليميين، ويخشون من أن يكون العبث والفوضى، أهدافاً بحد ذاتها دون سقوف القدرة على إحداث تغييرات كبيرة، تبدو مستحيلة، في ظل معادلات واقعية باتت تحكم مزاج الشارع وعلاقته بالمؤسسة العسكرية كخط أحمر غير قابل للتفاوض من طرفيه. فيصير العبث والفوضى هدفين لبريد رسائل يحاول الضغط والإرباك، ولو استخدم وقوداً له نيات طيبة، او أوجاعاً مشروعة، أو مآخذ ونقاط ضعف تتداولها الناس في صالوناتها وترغب بتلافيها وتفاديها، أو تطلّعات وطلبات ترغب بإسماعها والأخذ بها.

لا قلق على مصر من الذهاب إلى الفوضى، ولا خوف على مصر من عودة الأخوان، ولا خطر ثالث سوى هذين يراه المصريون هذه الأيام ويضعونه في الحسبان، وبعضهم المتحمّس للدفاع عن أداء مؤسسة الحكم، ولو بقوة عمق ما تعلّموه من عبرة ما جرى عندما خطف الأخوان ثورتهم الأولى، لا يمتنع عن تقديم دفاعاته عن السياسات الرسمية وحساباتها وحجم الضغوط الاقتصادية المحيطة بمصر وحاجاتها الكثيرة، رغم ضيق الموارد، وبالتوازي حجم القيود التي تربك حركتها لتطوير مواقفها ورفع سقف حضورها، ودرجة الحساسيّة العدائيّة المتوجّسة التي تحضر فيها التعاملات الغربية والإسرائيلية مع كل خطوة تخطوها مصر نحو دورها الطبيعي في المنطقة، خصوصاً من البوابة السورية، التي سيلحظ بقوة كل زائر لمصر يلتقي نخبها ويجس نبض شارعها، أنه شأن مصري، لا يزال يتردد معه كلام جمال عبد الناصر سورية قلب العروبة النابض ، أو التذكير بأن الجيش السوري هو الجيش الأول كما جرت تسميته في مرحلة الوحدة السورية المصرية ولا يزال، أو أن مصر هي الإقليم الجنوبي وسورية هي الإقليم الشمالي، وبالمقابل الكلام الذي قاله حكم الأخوان ذات يوم سبق ترحيلهم من السلطة، عن القرار بالذهاب للقتال ضد الجيش السوري، فكانت الخطيئة المحرّمة التي دقت معها ساعة الرحيل.

– بعد كل هذا الكلام المشحون بالقلق والرغبة، بالطموح والخشية، بالعقلانية والحماس، يلتقي كل نقاش مصري على معادلات تختصر، بالثقة بأن ما يجري في المنطقة سيمنح مصر، التي تقف بثبات عند خط رفض الاشتراك في الخطط والمشاريع المسمومة للمنطقة، وكلما هزمت هذه المشاريع وتلقت المزيد من الضربات، فرصاً لتتقدّم مصر أكثر، ولو تأخّرت حيناً أو ترددت أحياناً، ويلتقي كل نقاش عند حد أدنى عنوانه الحفاظ على استقرار وتماسك مصر، وعلى التمسك بعدم التهاون مع كل ما من شأنه فتح الأبواب أو الشبابيك أمام عبث وفوضى يستعيدان مشهد الأخوان، أو تفوح منهما رائحة أجنبية، أو تفضح خلفياتهما الأسئلة المالية عن مصادر التمويل، وكلام كثير عن تصادم واهم خاضه مشروع الأخوان بعنوان الدين بوجه الجيش، وتصادم واهم آخر يسعى إليه البعض بين المال والجيش، لأن المصريين لن يسلّموا رقابهم لأصحاب الشركات، ولا الصفقات، ولا المقاولات، فيما كثير من مآخذهم وعتبهم على حكومتهم ينبع من حجم نفوذ هؤلاء، لكن الخلاصة تبقى ثابتة، مصر لن ترجع إلى الوراء ولو كان التقدّم إلى الأمام بطيئاً، ومثلما كان عنوان التراجع الممنوع هو التورط في الحرب ضد سورية، فعنوان التقدّم المأمول هو الانخراط في صناعة الحضور مع سورية ونحو سورية وفي سورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى