اللبنانيّون: أمّة من دون ألقاب.. حيّان سليم حيدر
صدر قرار مجلس الوزراء رقم 5 تاريخ 22-8-2019 الذي أكّد على قرار المجلس رقم 36 تاريخ 16-10-1997 وهو يقضي بعدم إستعمال الألقاب في التخاطب واعتماد كلمة “السيدة” و “السيد” في جميع المراسلات الإدارية.
يعود هذا بي الى العام 1977 بعد صدور المرسوم الإشتراعي رقم 5/77 (لاحظ الرقم 5 يتكرّر) الذي قضى بإنشاء مجلس الإنماء والإعمار. وعلى أثر صدور مرسوم تعيين أعضاء أول مجلس في بداية نيسان 1977 وفي ختام جلسته الأولى وبعد المداولة، وجّه المجلس كتابًا الى الحكومة بواسطة رئيسها. وكان المجلس، رئيسًا ونائبي رئيس وأمينًا عامًا وأعضاءً، قد ارتأوا أن يبادروا الى إلغاء الألقاب في المراسلات الرسمية. لقد أردنا في باكورة عملنا أن ندشّن ظهورنا العلني الأول بهذه الخطوة “الحضارية”، التغييرية والمتقدمة عمليًّا (هكذا إعتبرناها).
يراودني هنا صدى الصراع على الألقاب، الرسمية منها والإجتماعية والشعبية وغيرها، الذي طبع نشوء لبنان “المستقل” وتطوّره. كان من أبرز الخلافات التي تزور ذاكرتي تلك المتعلقة بلقب رئيس المجلس النيابي، بعدما تمّ اعتماد لقبي الفخامة والدولة للرئاستين الأولى والثالثة.
وكان إقتراح لقب “عطوفة” قد اعتمد لذلك المنصب لبرهة قصيرة لم تعمّر في وجه الإعتراضات التي رأت في معناه ضعفًا، كأن تبدو هذه الطائفة تستعطف لقبًا الخ… فسرعان ما صُرِفَ النظر عنه واعتمد لقب “دولة” للرئاسة الثانية أيضًا. شخصيًّا غالبًا ما كنت أستسيغ لقب سيادة لما فيه من معنى القائد والسيد معًا. ولكن …
إذن، وجّهنا كتابنا هذا الى رئيس مجلس الوزراء تحت لقب “السيد” … وبعدها وفي خضمّ الإعتراضات والإهمال اختفت المبادرة ، وخفت الحماس لترشيق “جماليات” مراكز السلطة وتنميطها و وترشيدها وتوحيدها.
هكذا كان. وأقول، بالنيابة عن زملائي، إن شاء الله خير، ويسلك البلد الآن طريق “الحضارة” الإدارية المنتظرة والمنظورة منذ زمن.
وطالما أنّنا في صدد التذكير بأول خطاب وجّهه أول مجلس إنماء وإعمار الى الحكومة، أرى من المفيد جدًّا، بل من المعبّر جدًّا جدًّا والمستهجن معًا، التطرّق الى مضمون هذا الكتاب الأول.
كما يعرف المتابع للشأن العام، كان مجلس الإنماء والإعمار قد نشأ بالتزامن مع إلغاء وزارة التصميم. وبهذا إنتقلت مهام التخطيط إليه. وكنا قد لاحظنا إغفال موقع المديرية العامة للإحصاء المركزي، جهازًا ومهامًا ووظيفةً، خلال عملية نقل التخطيط من الوزارة الى المجلس. وغني عن التذكير أن الركيزة الأولى للتخطيط إنما تكمن في جمع المعلومات بواسطة أداتها الأساسية أي الإحصاءات وباستخدام الذراع المنفّذ لذلك أي تلك المديرية بالذات.
وبالخروج قليلًا عن مرامي هذه الذكريات، أرى من واجبي (الوطني) التذكير أن آخر تعداد سكاني عام للبنان حصل في العام 1932، بعد الإشارة الى أن هناك من شكّك يومها بطريقة إجرائه وبالتالي بالأرقام التي توصّل إليها، لا يهم ! كما ومن المفيد تكراره أيضًا (جدًّا جدًّا) التنبيه الى أن لبنان (العظيم) قد أصبح اليوم آخر دولة في العالم من دون تعداد سكاني شامل، وذلك مراعاةً … للحساسية الطائفية، علمًا أن الجميع يعرف الأرقام ويتعاطى معها وبها ويستعملها (على هواه وحسب مبتغاه وخدمة لأهدافه).
إذن، وجّهنا أول كتاب لنا الى الحكومة طالبين منها إستدراك “السهو” الحاصل واتّخاذ القرار التصحيحي الآيل الى إلحاق المديرية العامة للإحصاء المركزي بالمجلس.
وبعد السؤال، وتثبيتًا للبنانيّتنا الفريدة، كنّا قد إكتشفنا أن موظفي مديرية الإحصاء وخبراءها كانوا قد تبعثروا خلال حرب السنتين بحيث إلتحق كلّ منهم، على “هواه”، بالوزارة التي إعتقد أنه “ينتمي” إليها، إمّا طائفيًّا أو مناطقيًّا أو حزبيًّا أو … (سأقول ميثاقيًّا).
ولم يتغيّر أيّ شيء. وهكذا كان.
وهكذا سقطت أولى أحلام بعض شباب لبنان المسؤول في محاولتهم لتطوير عمل الإدارة العامة وفقًا لمنطوق الإدارة الرشيدة والوصف الوظيفي السليم والجدّية في العمل.
هكذا أُفْشِلت في الشكل محاولة السعي الى إلغاء الألقاب.
وهكذا أُفْشِل في المضمون مفهوم التخطيط بإهمال تثبيت ركيزته الأساس !
ويجب أن أقول للقارىء الشاب: أنت محظوظ لأنك تنعم برفاهية أن تجهل ما أعرفه…
ومنذ ذلك الوقت، وقبله، واللبنانيّون “يحتفلون”… بالتخطيط من دون إحصاءات، والتنفيذ من دون مخطط توجيهي عام للدولة، وبالإنفاق على الكهرباء من دون أي تنوير، وبتوزيع الغُنْم من دون إحصاء الغُرْم، وبصرف الموازنة قبل إقرارها، وبقطع الأرزاق قبل قطع الحساب، وبالتعايش من دون العيش، واللائحة تطول، وبالنهاية … بمداواة البؤس بالحرمان (أو أنّه العكس؟).
وما زلنا كما يقول الأجنبي: Still celebrating
نعيمًا يا لبنان !
قد يكون أفضل تعبير عن حالنا ما كتبه مؤخّرًا صديقي وزميلي في هذا المجلس بسؤاله لي تعليقًا على مقالتي الأخيرة:
” ما الذي أعادك الى فسحة الأمل بالله عليك ؟ “