أوروبا الاستراتيجية مع إيران والحالية في السجن الأميركي؟: د. وفيق إبراهيم
مشروع الوساطة الأوروبية بين إيران والأميركيين يهدف في الظاهر لوقف تدحرج الطرفين نحو حرب مدمرة، لكنه يعكس ايضاً حاجة أوروبا لإعادة تأسيس دور استراتيجي يفتح لها مجدداً ابواب الشرق الاوسط الاقتصادية بالغاز والنفط والاستهلاك وإعادة الإعمار.
فالدول الاساسية في الاتحاد الأوروبي على معرفة عميقة بأن انتصار الأميركيين لا يعني إلا تمديد الاعتقال الأميركي لأوروبا لنصف قرن وأكثر، كما أن فوز إيران وسط تأييد صيني روسي و»ضبابية أوروبية متأمركة» يعني استبعاد أوروبا عن أي دور اقتصادي في الشرق الأوسط ما يؤدي أيضاً إلى المزيد من تراجعها.
هذا ما يدفع بالاتحاد الأوروبي لتأسيس وساطة تلبي ما يطلبه الأميركيون وتبني آفاقاً مستقبلية مع إيران البلد الواعد بإمكاناته الاقتصادية وعلاقاته الإقليمية والدولية.
لذلك بدت الوساطة الأوروبية كعجوز حدباء تحاول الانتصاب ولا تقدر، فتتحايل على الزمن بشدّ ظهرها الى الوراء لتبدو قوية.
للتعمق أكثر، تحتوي الوساطة الأوروبية على ثلاثة مستويات: إعادة السماح الأميركية لثماني دول بالتعامل الاقتصادي مع إيران. وكانت هذه الدول تتمتع باستثناء أميركي من الالتزام بالعقوبات الأميركية لكن واشنطن ألغتها مؤخراً.
ويتعلّق المستوى الثاني بتخفيف الدور الإيراني في اليمن والعراق وسورية. وهذا يفتح الباب في المستوى الثالث لمفاوضات جديدة بين الأميركيين والإيرانيين والأوروبيين والروس والصينيين حول إعادة تمتين الاتفاق النووي موضوع الخلاف، على أن تفصل بينهما لقاءات تجمع الرئيسين الإيراني روحاني والأميركي ترامب، فهذا الأخير بحاجة اليها للزوم معركته الرئاسية في 2020، لأنها تتيح له الظهور كالمنتصرين.
يتبين أن القسم الأول من المبادرة الأوروبية يشبه حبة اسبرين فيما المطلوب طرح علاج كامل لأزمة عميقة. فالخنق الاقتصادي الأميركي لإيران بعشرة اصابع لا يتراخى بمجرد توقف اصبع واحد عن الخنق ولمدة محدودة. وهذا يكشف عن المراوغات الأوروبية بسبب الضعف «أمام الأميركي» فقط وليس اي شيء آخر.
لمزيد من الإيضاح، فهناك أربع دول من هذه الدول الثماني لا تزال تتعامل مع إيران اقتصادياً، وهي الصين وروسيا وتركيا بالإضافة الى دولتين أخريين تقيم علاقات سرية.
أما لجهة آلية التعامل «الانستكس». فهي لا تشمل النفط والغاز اللذين يعتبران أهم موارد الاقتصاد الإيراني وتشمل مستويات اقتصادية بوسع الصين وروسيا تلبيتها.
أين الجديد اذاً؟ هناك شعور بأن هذا الجانب قابل للتطوير السريع بمجرد قبول الطرفين المتنازعين بالمبادرة الأوروبية. وهناك من يقول إن أوروبا تحمل موافقة أميركية تريد من إيران إعلان موافقتها المسبقة على المبادرة، حتى يصبح بوسعها القبول بمسلسل تنازلات متدحرجة. وهذا احتمال قابل لعدم التحقق.
على مستوى الطلب من إيران تخفيف دورها السياسي في اليمن والعراق وسورية وإعلان ذلك بوضوح. فهذا غاية في العجب.
لأن أنصار الله في اليمن هم قوة يمنية عربية تشكل جزءاً من الزيود الذين يحكمون اليمن منذ أكثر من ألف عام.
هؤلاء قبلوا باتفاق استوكهولم السويدي الذي يبتدئ بالساحل الغربي والحديدة دافعاً اليمن بكامله الى مفاوضات الحل النهائي، ومراقبو الامم المتحدة هم الذين اعترفوا أن تعطيل الاتفاق من مسؤولية السعودية وقوات رجلها هادي.
ودور إيران هو التحالف السياسي مع قوات أنصار الله في يمنٍ محاصرٍ بحراً وبراً وجواً منذ 2016، فحتى الذبابة لا تستطيع العبور إلا بعد موافقة الحصار السعودي الأميركي.
أما لجهة العراق فلإيران علاقة بالحشد الشعبي الذي يجسّد التطلعات الشعبية العراقية منذ مرحلة ما قبل الفتوحات الاسلامية لأنهم عرب العراق المقيمون فيها منذ أكثر من 1500 عام وأكثر.
فهل يطلب الإيرانيون من عراقيين مغادرة العراق والى أين؟ أم يطلبون منهم إلقاء سلاحهم والتعامل مع القوات الأميركية التي تحتل العراق منذ 2003 مواصلين الطلب من الحوثيين في اليمن الاستسلام لقوات سعودية إماراتية مدعومة أميركياً واسرائيلياً تحتل اليمن منذ 2016؟
يتبقى لسورية التي تجمع إيران بها علاقات صداقات وبضع مئات من مستشارين يعملون الى جانب الجيش السوري، هذا بالإضافة الى قوات حزب الله التي تعتبر معركتها في سورية جزءاً من معركتها ضد الكيان الإسرائيلي الغاصب.
لذلك فإن التحالفات تعمل تحت قيادة الجيش العربي السوري وليس لديها مشروع منفرد، أما السؤال هنا فكيف نطلب من حزب الله والمستشارين الإيرانيين العاملين مع الدولة الشرعية الانكفاء عن سورية ونترك الاحتلال الأميركي الأوروبي لشرق سورية وشمالها والاحتلال التركي لعفرين وإدلب وأرياف حماه وحلب مع شريط حدودي طويل؟
فهل هي مبادرة سويةُ تلك التي تتضمن طرداً لسكان محليين مثل الحوثيين والحشد الشعبي، وتخفيفاً لقدرات الجيش السوري وعقوبات على حزب الله ولا تمسُ شعرة واحدة من الاحتلالات الأميركية للمنطقة والعدوانية الإسرائيلية الدائمة والاحتلال السعودي لليمن الداعم لمنظمة «قسد» الكردية التي بدأت ببيع نفط سورية في شرقي الفرات للإسرائيليين.
تدل هذه المعطيات على مدى الضعف الأوروبي امام رئيس أميركي أهوج قابل للاستثارة بسرعة. وهذا ما يخشاه حكام أوروبا المذعورون.
بالمقابل إيران وسورية واليمن والحشد الشعبي وحزب الله ليسوا من فئة الذين يصابون بذعر من المحتلين والدليل أنهم يحاربونهم في كل مكان، بقي على الأوروبيين أن يخرجوا من خوفهم لأن مصالحهم الاستراتيجية هي مع إيران وحلفائها الوحيدين القادرين على إخراج أوروبا من السجن الأميركي.
(البناء)